داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

خرائط التاريخ والجغرافيا تدق الأجراس

الحمد لله أن أقدم الخرائط الجغرافية التي استطاعت البشرية توارثها من دون أن تضيع بين الأجيال المتعاقبة تعود إلى الحضارة البابلية في العراق القديم، وهي مصنوعة من الطين، وكان الهدف منها تحديد الأراضي الزراعية وحصر الملكية وجمع الضرائب. وما زالت هذه الخريطة موجودة في متحف الدراسات بجامعة هارفارد في الولايات المتحدة الأميركية.
أما أولى الخرائط الورقية فكانت فرعونية مصرية تم رسمها على ورق البردي في عهد رمسيس الثاني. وكان الفضل للإغريق في تقسيم الأرض إلى دوائر الطول والعرض. ثم نجح العلماء المسلمون، وفي مقدمتهم العالم العربي أبو عبد الله محمد الإدريسي القرطبي من بلاد الأندلس في رسم أول خريطة للكرة الأرضية في القرن الثاني عشر الميلادي. وقد كرمت اسمه خير تكريم وكالة الفضاء والطيران الأميركية (ناسا)، حين أطلقت اسمه على سلسلة جبال تم اكتشافها على سطح كوكب بلوتو. وأعيد رسم ونشر خرائطه وعرضها في معارض الكتب الدولية. ومن أشهر كتب الإدريسي موسوعة جغرافية عنوانها «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق». وهذا العنوان الشاعري يعود إلى أن الإدريسي كان شاعراً وأديباً وعالماً جغرافياً. ويضم الكتاب 1070 خريطة رسمها الإدريسي.
والعالم العربي الرحّالة الآخر، الذي لمع في القرن التاسع الميلادي، قبل الإدريسي، ووصفه علماء التاريخ بأنه «هيرودوتس» العرب، هو العلامة أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي. ولد في بغداد في عام 283 وتوفي في القاهرة في عام 346. ومن أشهر كتبه «مروج الذهب» الذي وصف فيه البحر الميت وطواحين الرياح التي ابتكرتها الشعوب الإسلامية قبل قرون من وصولها إلى هولندا والبلطيق. وله كتاب علمي ثمين في علم الأنثروبولوجي عن شعوب الأراضي التي زارها من صفات وعادات وتقاليد ومهن ومأكل وملبس ومأوى. وكان له دور بارز في وضع الخرائط ورسمها لتحديد الأبعاد وطرق السفر والتجارة والاستكشافات الجغرافية والتاريخية.
وجاء في سنواتنا هذه العالم الياباني البارز هاجيمي ناروكاوا، حيث قسم الكرة الأرضية إلى 96 منطقة للمحافظة على الأبعاد الحقيقية للقارات. واعتبرت القاعات السياسية والجغرافية ابتكار العالم الياباني صدمة للخرائط القديمة قد تحولها كلها إلى أوراق مَتحفية؛ فقد كان يهدف من رسم خرائط مسطحة ثنائية الأبعاد إلى المحافظة على الأبعاد الحقيقية للقارات لمعالجة مشاكل القرن الحالي والقرون المقبلة، بما في ذلك التلاشي السريع للجليد البحري، وتوضيح مساحة أكثر دقة للمناطق القريبة من القطبين. وقد استعادت أفريقيا حجمها الحقيقي على الخريطة الجديدة، بينما تقلصت أميركا الشمالية وأوروبا إلى أحجامهما الحقيقية. كما تم رسم المحيطات بدقة أكثر من خلال كسر القواعد القديمة وخطوط الطول والعرض.
ويقول علم الجغرافيا إن خرائط العالم تركز على المعالم الطبيعية من أرض وبحار وأنهار وجبال، بينما تهتم الخرائط الجيولوجية بالتربة والمياه والمعادن والصخور والبراكين وتصدعات الزلازل. وكل هذه الخرائط لا مشكلة فيها، بعكس الخرائط السياسية التي هي موضوع هذا المقال، حيث تكمن أسباب الحروب والاستعمار والاحتلال قرناً بعد آخر.
تعود فكرة إقامة الحدود بين الدول إلى القرن التاسع عشر، وكلمة «الحدود» مشتقة من كلمة «الحد» وهو الفاصل بين خطين أو شيئين. وفي العلوم السياسية والجغرافية تعني ما يفصل بين دولتين ويتم تعليمه بمراكز العبور الجمركية أو نقاط عسكرية أو أمنية. وفي الدول الأوروبية تفصل بين بعض الدول مقاهٍ ومطاعم وفنادق ومراكز تجارية، بينما تفصل بين بعض الدول النامية معتقلات للمتسللين والمهربين، كما هي بين الولايات المتحدة والمكسيك. وهناك فروق عملية ولغوية بين المصطلح الحديث «الحدود» والمصطلح القديم «التخوم» وفي الغالب تكون «الحدود» مدناً مسكونة، أما «التخوم» فهي مواقع وعرة غير صالحة للاستيطان البشري كالصحارى والجبال الشاهقة الارتفاع أو مياه البحر الإقليمية أو القارات القطبية أو الفضاء الخارجي.
وتفصل الأنهار بين بعض الدول المتشاطئة كنهر الدانوب بين دول شرق أوربا، ونهر السنغال بين السنغال وموريتانيا، ونهر ميكونغ بين كل من تايلاند وكمبوديا وفيتنام ولاوس وميانمار، ونهر شط العرب الذي يصب فيه نهرا دجلة والفرات العراقيان ويفصل بين العراق وإيران.
وفي كل الأحوال، قديماً وحديثاً، تعد الحدود الدولية مشكلة معقدة لم تعد تمتد في بعد واحد مرتبط بالتنظيم الأرضي للدولة، بل تمددت أبعاد الحدود إلى مسطحات الماء وأعماقها وأغوار الفضاء الذي يغلف الكرة الأرضية.
الخشية ليست من الحدود الفضائية ولا الحدود المائية، بل الحدود البرية؛ وكل الحروب قامت على هذا الهدف، لأنها تركز على أساس تعديل الحدود اليابسة. وتناول الجغرافيون السياسيون الجدد هذه المشكلة، فقال فريدريك راتزل في كتابه «الجغرافيا السياسية»: «إن نطاق الحدود هو الحقيقة الواقعة، أما خط الحدود الطباشيري فليس سوى تجريد لهذا النطاق. وهذا النطاق هو المكان الذي يشير إلى نمو أو تقلص الدول. وعلى الدول أن تسعى إلى الحصول على أقصر خطوط الحدود لأنها أقواها وأحسنها، وأن تقيم استحكامات عسكرية على طولها، ويفضل أن تكون الجبال والأنهار حدوداً فاصلة». وكمثال في الذاكرة، كانت الحدود العراقية - الإيرانية في الوسط والشمال جبلية، وحدودها النهرية في شط العرب جنوب العراق، ومن النقطتين بدأت حرب الثماني سنوات في الثمانينات من القرن الماضي. وعادت المشكلة في السنوات الأخيرة على الرغم من أن الأحزاب والميليشيات العراقية معظمها موالٍ لإيران، وقد شيدت إيران في السنوات الثلاثين الأخيرة أكثر من 600 سد لمنع المياه عن العراق، وهذه الحدود المائية قنبلة قد تنفجر في أي وقت.
والحروب ليست الوحيدة التي قد تعبث بالحدود الدولية؛ فعلماء الجغرافيا يعتقدون أن تغير المناخ قد يؤدي إلى إزالة جزر من خرائط العالم، وبعضها له سمة دولية وعضوية في الأمم المتحدة؛ فقبل أشهر أصدرت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية تقريراً ورد فيه أن الاحتباس الحراري والأعاصير والفيضانات قد تؤثر في جزر جنوب شرقي آسيا والكتل الجليدية بين جبال الهيملايا والإنديز إلى حد توقع زوالها خلال السنوات الخمس المقبلة. كما أن حرائق غابات أستراليا وارتفاع درجة الحرارة في المحيط الهادي يتمان بوتيرة أسرع بكثير من المعتاد، ما يهدد المنظومات البيئية الحيوية في تلك المناطق ويجري تحويرات في خطوط الحدود قد تنتهي بإزالتها. ومن الدول المهددة بهذه المخاطر الفلبين وإندونيسيا وماليزيا وبابوا غينيا الجديدة وجزر سليمان وتيمور الشرقية وشمال أستراليا.
عموماً تُركز خرائط العالم على الحدود السياسية، إما أن تكون موغلة في القدم أو نتيجة لتقسيمات استعمارية أو انفصالية أو وحدوية أو جغرافية، وتشمل السواحل البحرية والخلجان والموانئ والمياه الإقليمية والأنهار الجارية من دول المنابع إلى دول المصبات. وقد وصلنا الآن إلى فرض سيطرة فضائية على مناطق في القمر والمريخ تابعة لهذه الدولة أو تلك من الدول التي تهبط مركباتها على كواكب بعيدة في عمق الفضاء.
لقد عشنا خلال الشهرين الأخيرين في دوامة الأخبار الدموية المقبلة من موسكو وكييف ومدن وموانئ وأنفاق قطارات. ونحن نتساءل: هل ثمة خرائط ستتغير بعد ألفي عام من وفاة الإدريسي والمسعودي؟!