عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

مشروع لمشكلة المهاجرين يثير الجدل

لا مفاجأة في ردود الفعل المفاجئة، للمفاجأة التي ألقاها رئيس وزراء بريطانيا، بوريس جونسون، بإضافة للوائح مشروع قانون المواطنة والحدود، في شكل اتفاق تعاون مع رواندا، لاستقبالها الشباب والرجال العزاب من مهاجرين يصلون الشواطئ الإنجليزية بطرق غير شرعية، للتعامل مع طلبات لجوئهم في البلد الأفريقي مقابل 157 مليون دولار دعماً سنوياً.
لا مفاجأة في نوعية عناوين الصحف ونشرات الأخبار في الأيام الثلاثة الماضية، فأغلبها يقع تحت نفوذ اليسار الليبرالي وخصوم جونسون (خصوصاً من التيار الذي يريد التخلص منه لعكس «بريكست» وإعادة بريطانيا إلى الحظيرة الأوروبية) واتهامات المعارضة، من العمال والديمقراطيين الأحرار، والقوميين الاسكوتلنديين والمؤسسات الليبرالية. العناوين والتعليقات كلها تقريباً سلبية تجاه الحكومة، تتهمها بانتهاك حقوق الإنسان والقانون الدولي، وتسمي المهاجرين «لاجئين»؛ ووصفت إرسالهم إلى أفريقيا بسياسة لا أخلاقية، وغير إنسانية، وعودة لنظام كولونيالي من قرون مضت.
لا مفاجأة في تغطية الأقلية من صحافة موالية للمحافظين وقناة تلفزيون واحدة (قناة «جي بي نيوز»، ووسائل يمين الوسط في مجموعها تخاطب أقل من ثلاثة في المائة من المشاهدين والقراء - راجع موضوع الأسبوع الماضي) سمتهم «مهاجرين» لا «لاجئين»، ورحبت بالسياسة الجديدة، لأنها ستجعل بريطانيا أقل إغراء للمهاجرين، وبالتالي يترددون في دفع آلاف الدولارات لمهربي البشر؛ لكنها حذرت من أن الحل مؤقت، ما لم يتم تعديل الاتفاقيات الدولية بين، ومع، البلدان التي يمر بها المهاجرون في طريقهم إلى الشاطئ الفرنسي لبحر المانش.
ولا مفاجأة في ردود فعل نواب المحافظين من مؤيدي جونسون وتيار «بريكست» واستخدام تعبير «سياسة الإنجاز». وكانت حكومة جونسون فازت في الانتخابات الماضية (2019) بأغلبية كاسحة بشعار «إنجاز بريكست»، واشتمل برنامجها الانتخابي وعداً بمعالجة الهجرة غير الشرعية، التي أقنعت ناخبي عشرات من الدوائر، التي تصوت للعمال تقليداً، بالتصويت لأول مرة للمحافظين.
ولا مفاجأة في توقيت جونسون لهذا الإعلان، الذي يحول الجدل السياسي بعيداً عن اتهامات المعارضة والصحافة له بتضليل البرلمان، في تبريره مخالفات مكتبه لتعليمات عزل وباء «كوفيد»؛ فالإعلان جاء في أعقاب تلقيه، وزوجته ووزير المالية وعدد من مساعديه، غرامات على هذه المخالفات؛ كما أن التوقيت يأتي قبل أسبوعين فقط من انتخابات الحكومات المحلية والبلديات. فضغوط المهاجرين على الخدمات المحلية من تعليم وصحة، وإسكان، ورعاية اجتماعية، وأمن، من أهم أولويات الناخب المحلي. جونسون يلوح بحق يرى المنتقدون المراد به باطلاً. جونسون يقول إن السياسة هدفها تجنب غرق المهاجرين في البحر، حيث يدفع بهم مهربو البشر الذين يتقاضون آلاف الدولارات من كل مهاجر إلى قوارب صغيرة، معتمدين على سياسة خفر السواحل البريطانية في إنقاذهم. وكان أكثر من ثلاثمائة جثة مهاجر غريق انتشلت في بحر المانش العام الماضي، وأكثر من 19 ألفاً في البحر المتوسط في ستة أعوام.
حكومة المحافظين تقلد أستراليا التي ترسل المهاجرين غير الشرعيين إلى مناطق بعيدة كجزر ناورو في المحيط الهادي؛ التي نجحت في تفليس مهربي البشر بعد أن اكتشف الضحايا (وأغلبهم من بلدان آسيا المكتظة بالسكان كالفلبين) أن المبالغ التي يدفعونها للمهربين ستضيع هباء، وبالتالي جفت بئر الدولارات باختفاء عنصر جذب المهاجرين.
ما يهمني كصحافي من المدرسة الكلاسيكية، ليس فقط الاستقطاب في صفحات التعليق والرأي، واختيار ما يسمونهم «خبراء» للتعقيب على سياسة جونسون، بل غياب المهنية بشكل يحرم القارئ والمتفرج (دافع الضرائب الذي يمول هذه السياسة) من المعلومات الأساسية اللازمة لاتخاذ القرار الأنسب في صناديق الاقتراع في الخامس من الشهر المقبل.
صحافة وشبكات اليسار الليبرالية، الأقوى تأثيراً في الرأي العام، تصف السياسة باللا أخلاقية، وغير الإنسانية، ومنافية للمبادئ والقيم البريطانية (وبالفعل بريطانيا أنهت سياسة ترحيل المجرمين إلى المستعمرات في القرنين الثامن والتاسع عشر)؛ لكن الصحافة لم تقدم معلومات مفيدة بحقائق وأرقام. بل كرر معلقوها أن القانونين، الدولي والبريطاني، يمنعان الحكومة من ترحيل أو رفض دخول طالبي اللجوء لأسباب إنسانية أو سياسية حتى يتم البت في طلبهم، بينما تجاهلت هذه الوسائل الصحافية تصنيف القادمين في قوارب مهربي البشر من الساحل الفرنسي إلى «لاجئين» و«مهاجرين غير شرعيين».
في العام الماضي وصل من المهاجرين عبر دوريات خفر السواحل أكثر من 29 ألفاً، قرابة ثلاثة أرباعهم شباب في سن الخدمة العسكرية، والباقي نساء وأطفال، ورجال فوق الأربعين.
جميعهم بلا استثناء عبروا بحر المانش من الساحل الفرنسي، ووصلوه عبر إسبانيا من مضيق جبل طارق، أو إيطاليا، واليونان، ورومانيا وبلغاريا. أي مروا ببلدان في الاتحاد الأوروبي تمنح اللجوء السياسي والإنساني لمن يطلبه، وموقعة على اتفاقية دبلن التي تلزم أول بلد آمن يصل إليها اللاجئ بتأمين إقامته والبت في طلبه.
ولم تسأل الوسائل الصحافية لماذا لم يطلب المهاجرون اللجوء في أي من هذه البلدان.
المنتقدون أيضاً يتهمون حكومة المحافظين بالإخفاق في التعاون مع فرنسا، في حين أنه في الواقع صورت كاميرات التلفزيون مهربي البشر ينزلون قوارب المهاجرين إلى شاطئ المانش على بعد أمتار قليلة من البوليس وخفر السواحل الفرنسيين. وكانت بريطانيا دفعت لفرنسا ما يزيد على 158 مليون دولار ما بين 2015 و2019 لتمويل حراسة الشواطئ، بجانب 70 مليون دولار دفعتها بريطانيا إلى فرنسا العام الماضي للغرض نفسه، ولم تلتزم حكومة الرئيس فرنسوا ماكرون بالاتفاق.
غالبية الوسائل الصحافية تركز على جانب واحد من البعد الاقتصادي للقضية، وهو تكاليف نقل المهاجرين غير الشرعيين في تذاكر السفر، بجانب الدعم السنوي لرواندا من دون ذكر أن تكاليف الإقامة التي تدفعها وزارة الداخلية البريطانية لأكثر من 37 ألف مهاجر غير شرعي تتجاوز ستة ملايين دولار يومياً، بجانب أنه لا يمكن وضع ثمن لحياة البشر الذين يغرقون في البحر يومياً، وبلا سياسة لتجفيف مصدر دخل مهربي البشر فلا أمل في القضاء على الظاهرة.