فاي فلام
TT

الحصانة من «كوفيد» لغز طبي

من أكثر الأمور المثيرة للدهشة التي أدركها العلماء من وراء تعريض بعض الأفراد عمداً لفيروس «كوفيد - 19»، أن ما يقرب من النصف لم يصابوا بالفيروس مطلقاً -حتى عندما جرى إدخال الفيروس في أنوفهم مباشرةً. بيد أن الأكثر إثارة للدهشة من ذلك، أن هؤلاء الأفراد لم يسبق تعرضهم للإصابة أو لم يحصلوا على اللقاح. وقد جرى تصور هذه التجربة التي أطلق عليها تجربة التحدي، في الأصل كسبيل للإسراع من وتيرة اختبارات اللقاح، لكن انتهى الحال بتحولها إلى نافذة على ديناميكيات الفيروس.
وبعد مرور عامين على تفشي الجائحة، لا يزال ما يقرب من نصف الأميركيين غير مصابين بعدوى مسجلة، تبعاً لبعض التقديرات. ومن دون مزيد من الدراسة المتعمقة، من الصعب معرفة عدد الأشخاص الذين جاءت نتائجهم إيجابية في اختبارات المستضد التي تُجرى في المنزل، أو الذين أُصيبوا بعدوى من دون أعراض، أو ربما ظهرت عليهم أعراض خفيفة جرى تجاهلها على أنها نزلة برد دون الخضوع لاختبار.
إلا أن تجربة التحدي ودراسات الاتصالات المنزلية كشفت صعوبة إصابة بعض الأشخاص بالعدوى. في إحدى الدراسات، أُصيب 38% فقط من الأشخاص غير الملقحين الذين يعيشون مع شخص مصاب بالفيروس. وكان هذا الرقم 25% للمُلقحين.
ويثير ذلك التساؤل حول ما هي الفئات المعرضة للموجة الأخيرة من الجائحة، التي يقودها المتحور الفرعي «بي إيه. 2» الذي بدأ يتسبب بالفعل في ارتفاع أعداد الإصابات في شمال شرقي الولايات المتحدة. وقدَّر خبراء نُشرت آراؤهم في «نيويورك تايمز»، الأسبوع الماضي، أن 45% من الأميركيين أصيبوا بـ«كوفيد - 19» خلال موجة «أوميكرون»، وبالتالي افترضوا أن نسبة الـ55% المتبقية ستكون عُرضة للإصابة بـ«بي إيه.2».
إلا أن الأمر ربما ليس بهذه البساطة، ذلك أن الأشخاص الذين يفترض أنهم عُرضة للإصابة لا يصابون فعلياً بالعدوى، في الوقت الذي نجد أن الأفراد الذين ينبغي أن يكونوا محصنين في مواجهة «أوميكرون» يصابون بالعدوى من جديد. وتكشف البيانات الصادرة عن دراسة التحدي والاتصالات المنزلية، أن ثمة شيئاً أكثر من مجرد توخي الحذر وتلقي التطعيم يفصل بين أولئك الذين يصابون بالعدوى مرة بعد مرة والآخرين الذين يظلون بمنأى عن «كوفيد - 19».
يتعلق أحد التفسيرات التي يجري طرحها بنزلات البرد، ذلك أن نزلات البرد تحدث بسبب مجموعة ضخمة ومتنوعة من الفيروسات، من بينها أربعة من فيروسات «كورونا»: «إتش كيه يو 1»، و«أو سي 43»، و«إن إل 63»، و«229 إي». وكشفت دراسة نُشرت حديثاً في دورية «نيتشر» أن الأشخاص الذين ظلوا بمعزل عن الإصابة بفيروس «كورونا» يميلون لامتلاك المزيد من الخلايا المناعية المعروفة باسم الخلايا التائية التي تتكون بمعاونة الإصابات السابقة بفيروسات «كورونا» المسببة للبرد.
ومع ذلك، كشفت دراسات أخرى العكس، ذلك أن الإصابة بنزلة برد بسبب فيروس «كورونا» في الفترة الأخيرة يمكن أن تجعل الناس أكثر عُرضة للإصابة بفيروس «سارس - كوف - 2».
الحقيقة أن كل واحدة من النتيجتين تبدو منطقية، ذلك أن المناعة التي يحفّزها فيروس مشابه في الحيلولة دون الإصابة بـ«كوف - 2»، ربما تتداخل مع الاستجابة المناعية من خلال تكثيف إنتاج الأجسام المضادة التي لا تعمل تماماً ضد هذا التهديد الجديد. في هذا الصدد، قال عالم المناعة داني ألتمان، من «إمبريال كوليدج لندن»: «أعتقد أنه كانت هناك دراسات جيدة للغاية تجادل في كل اتجاه. ولا يمكنني الجزم هنا بالإجابة الصحيحة».
وأوضح ألتمان أن نظام مستضدات الكريات البيضاء البشرية يعمل على نحو يشبه التحكم في أسلوب برمجة نظام المناعة. ويعد هذا الجزء الأكثر تنوعاً في الجينوم البشري. ويفرز جسد كل واحد منّا بروتينات مستضدات كريات بيضاء مختلفة تعرّض أجزاء مختلفة من الفيروس كأهداف -الأمر الذي يحفز بدوره إنتاج خلايا مناعية، تُعرف باسم الخلايا التائية والتي تهاجم أجزاء مختلفة من الفيروس ذاته.
وكشفت دراسات سابقة أن الأشخاص الذين يحظون بأنواع معينة من جينات مستضدات الكريات البيضاء، أقل عرضة للإصابة بأعراض مرض كوفيد. وحددت دراسة أخرى الأنماط الجينية التي تجعل بعض الأشخاص الذين جرى تطعيمهم عُرضة لعدوى شديدة بـ«أوميكرون». بشكل عام، يمكن أن يُبدي الأشخاص الأكثر عُرضة للإصابة بمرض ما، مقاومة أكبر لأمراض أخرى.
وهناك سبب وراء تفضيل عملية التطور للتنوع في مهمة الحماية من العوامل الممرضة، على نحو لا يتوفر للحماية في مواجهة الحيوانات المفترسة. وبينما تواجه معظم الحيوانات نفس الحيوانات المفترسة مراراً وتكراراً، لذا فمن المرجح أن تمرر جيناتها لجميع نسلها دفاعاً مثالياً -سواء كان ذلك في السرعة أو الصدفة أو العمود الفقري أو السموم. في المقابل، نجد أن مسببات الأمراض تشكل تهديداً متغيراً باستمرار. لذا، فإن الحيوانات التي تنجح في تمرير معظم الجينات هي تلك التي تُنتج ذرية متنوعة مناعياً، الأمر الذي يزيد من احتمالات بقاء بعضها على الأقل، مهما كانت الأوبئة التي تظهر.
علاوة على ذلك، هناك كذلك متغيرات خارجية تؤثر على جهاز المناعة. على سبيل المثال، الحيوانات التي تتعرض لأنواع معينة من الإجهاد تكون أكثر عُرضة للإصابة بالأمراض المعدية.
وبالتأكيد سيكون من الرائع أن يكون لدى نصف البشر مقاومة طبيعية لجميع المتغيرات السابقة والمستقبلية من «سارس - كوف - 2»، ويمكن للعلماء دراستها لمعرفة كيفية محاكاتها. ومع ذلك، ربما يتضح في نهاية الأمر أن الأشخاص المختلفين معرضون للتضرر من متحورات مختلفة -بمعنى أن تتداعي المتحورات القديمة بسبب نفاد الأشخاص المعرضين للإصابة، في ذات الوقت الذي تظهر متحورات جديدة بفضل توصلها لطرق لإصابة أولئك الذين كانوا بمأمن من المتحور الأخير...
وربما يفسر هذا حتى لغز سبب صعود وهبوط موجات كوفيد. جدير بالذكر أن عدداً قليلاً من العلماء اقترحوا في وقت مبكر من خريف عام 2020 أن عدم التجانس البشري يمكن أن يفسر سبب بدء موجات الوباء في الانحسار عندما يصاب جزء من الناس فقط. وعليه، فإن السبيل الوحيد الفاعل في محاربة الفيروس فهمنا له على نحو أفضل - وكذلك فهمنا لأنفسنا...
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»