خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

الدولة ونظرية الساحرة المستطيلة

لماذا لا ينزل المدير الفني لفريق كرة قدم إلى الملعب بنفسه، حتى لو لم يكن لديه مانع بيولوجي كالسن المتقدم؟
أولاً، القيادة الفنية تستلزم التركيز مع كل تفصيلة في الملعب، لكل لاعب فيه. أمَّا دور اللاعب الفرد التركيز مع مهامه، في المساحة التي يتولى مسؤوليتها. على المدير الفني أن يختار، إما قيادة الجميع وإما المشاركة في اللعب. لا يجتمع الاثنان معاً.
ثانياً، القيادة مقترنة بزيف القدرة الخارقة، وهو زيف إيجابي هنا، يقدم المدير الفني بصورة مثالية، لا بد من وجودها في ذهن اللاعبين لكي يسعى كل منهم إلى الأفضل. من الطبيعي أن يخطئ لاعبو كرة القدم أثناء المباراة وتحت الضغط. إن كان اللاعب هو المدير الفني فخطؤه سيقوض سلطته. سيأخذه من عرشه ويضعه مع الصف الثاني. ولن يستطيع بعدها محاسبة أحد.
ثالثاً: الصورة الصحية لعلاقة اللاعبين ببعضهم البعض أنَّهم أنداد على قدم المساواة، وإن اختلفت نجوميتهم. لا يملك أحدهم اتخاذ القرار بشأن زميل له.
في حالة وجود «المدير» في الملعب يختل هذا التوازن. إن صرخ طلباً للكرة فلا بد أن تأتي إليه. سيحرم هذا اللاعبين من اللحظات الإبداعية، تلك المتأرجحة بين الفشل وبين اجتراح المعجزات، اللحظات الخارجة عن المألوف، غير الملتزمة بالنص. معظم الأفكار العظيمة التي تبهرنا، والمشروعات التي تكسر القوالب، نابعة من تلك اللحظات.
رابعاً: وجود المدير الفني بنفسه في الملعب إجراء استثنائي. أول ما يأتي على ذهني إن رأيت مديراً فنياً يفعل ذلك أن هذا القائد لا يثق في كفاءة لاعبيه. في مركزه لم يجد من هو أفضل من نفسه. ولو كان الأمر بيده لاستنسخ من نفسه أحد عشر نموذجاً، ووضع واحداً في كل مركز، من درع المرمى إلى رأس الحربة. بدلاً من أن يضطلع بمهمته الأساسية، وهي مساعدة المواهب على النمو، لكي يضمن استمرار النادي غداً.
دور الدولة في الاقتصاد، ربما يختلف في حذافيره عن دور المدير الفني المسؤول عن مجموعة محدودة من اللاعبين. لكن هناك تشابهات يفيدنا ألا نغفلها.
تتناسب حيوية الاقتصاد في بلد ما طردياً مع كفاءة وكم ونوعية المشاركين فيه. الدولة التي تضطلع بمهمة الإنتاج نيابة عن المجتمع تظلم نفسها وتظلم مواطنيها بتحويلهم من مقاعد اللاعبين إلى مقاعد المتفرجين، من مقاعد منتجي الأهداف إلى مقاعد منتظريها. كما أنها تعالج الاقتصاد بتشخيص خاطئ. يقود في النهاية إلى تقليص حس المبادرة الفردية، وإلى تحول المجتمع إلى أطفال يتولى عنهم آباؤهم المسؤوليات كلها. يكبر هؤلاء عادة تنابلة سلطان. العلاج بتشخيص خاطئ مضر ضرراً مزدوجاً، لا يعالج المرض، ولا يحث المريض على البحث عن علاج.
كلما شغلت الدولة مركزاً من مراكز الملعب انحسرت المواهب فيه، وافتقد اللاعبون أمل المنافسة على شَغله. وكلما توسعت مشاركتها كلما تقلصت مساهمات اللاعبين، حيث لا يملكون من الإمكانات ما تملك. ولا يملكون القرار السياسي والتشريعي كما تملك. ولا يملكون حرية التجربة.
في تربية الأطفال ينصحون بالصبر على الطفل حتى يكتسب المهارة، وهذا لن يحدث بلا أخطاء. إما أن تقف إلى جوار كتفه، وبمجرد أن يتعثر تنزع منه ما يحاول فعله لتنجزه أنت سريعاً، فهذا يجعل عمره يمضي بلا خبرات. وسيتحول قريباً إلى عالة إضافية، فم يأكل، لا يد تعاون. هناك أيضاً غرض نفسي في سلوك الصبر: إكساب الطفل الثقة.
القاعدة نفسها تسري اقتصادياً. إن لم يكتسب السوق الثقة، ويجذب مزيداً من الأفراد، تتراجع ثقافة العمل ويتباطأ نمو المهارات. ويؤثر هذا سلباً على بروز المواهب. المواهب تكشف عن نفسها عادة بشكل عشوائي لا نعلم خريطته مسبقاً، ولا يمكن التحكم فيه مركزياً، وإلا اختنق.
تكفل الدولة بالإنتاج يجعل كرة الاقتصاد مستطيلة، تستنزف أكثر مما تنجز. وينتج معادلات لا دافع فيها للربح، ولا رابح فيها. ينتج اقتصاداً ريعياً ينتمي إلى عصر الحساب، لا اقتصاداً خوارزمياً ينتمي إلى عصر الفيزياء. اقتصاداً يشبه لعبة «السي سو». ينخفض طرف ويعلو طرف، بينما يحتاج الاقتصاد إلى بيئة لا تجعله يركد في مكانه، وإلى لاعبين يحقق كل منهم معادلته البسيطة: أن ينتج أكثر مما يتكلف. ويحتاج الاستثمار إلى ديمومة تسمح بتراكم الثروة، تاتا تاتا حتى تتخطى العتبة. ثم تصل الأولمبياد، وتكسب الذهب والفضة والبرونز.
مؤسسات إدارة الدول النامية لا تحتاج دائماً إلى مضاعفة الجهد، تحتاج غالباً إلى بذله في اتجاه مجدٍ.