حنا صالح
كاتب لبناني
TT

لبنان آخر للخروج من جهنم!

بعد 600 يوم على جريمة الحرب ضد الإنسانية التي استهدفت بيروت يستمر سقوط الضحايا. لا نهاية للوجع، منذ تفجير مرفأ بيروت والمئات ما زالوا قيد العلاج وهم تحت الخطر الشديد، في حين انضمت جريحتان إلى قائمة ضحايا الإبادة الجماعية التي نجمت عن الجريمة. عرفتا من الأوجاع ما لا يحتمل، كانتا تُقتلان كل يوم مع انعدام تلقي العلاج المطلوب، وتفاقمت معاناتهما مع تعطيل التحقيق العدلي، وممارسة كل التعسف لمنع صدور القرار الاتهامي؛ نتيجة التدخلات السياسية التي أبطلت كل إمكانية لرؤية أحد الرؤوس الكبيرة خلف القضبان، كما رؤيتهما المتسلطين يعيدون تدوير ناهبين فارين من العدالة، وكل هاجسهم أن الترشيح إلى الانتخابات وإعادة انتخابهم تبرئة للمدعى عليهم بجناية «القصد الاحتمالي» بالقتل!
يتمادى المتسلطون الذين غطوا اختطاف الدولة ويمعنون في تجويف العدالة. يمارسون الاحتقار بحق بلد احتضن ضحايا تفجير المرفأ، ويستخفون بالحقوق والكرامات، فيقدِّمون منحى إزالة الشاهد على ترميد بيروت؛ هدم مبنى الإهراءات؛ لأنهم لا يريدون بقاء مَعلمٍ يُذكر بحجم الجريمة التي تسببوا فيها! ولا يحيدون عن أولوية إعادة إنتاج نظام المحاصصة الغنائمي لتمرير الصفقات المحمية ببندقية دويلة «حزب الله».
أبرز الأولويات، كان مشروع القانون المسخ «كابيتال كونترول» بتأخير 30 شهراً نهبوا خلالها الودائع وهرّبوها وهي تعب المودعين. ولأنهم تسلطوا من خارج الدستور ويحكمون بالبدع والفتاوى، يسعون لتشريع قوننة الفساد، فوضعوا مشروعاً وقحاً لُحمته وسداه شطب الودائع وحماية الكارتل المصرفي من الملاحقات القضائية التي بدأت تعطي الثمار. ذهبوا إلى ابتداع لجنة مصرفيين يكون بين أيديها المقدرات والقرارات لمدة خمس سنوات (...) لجنة هي القانون، تقرر باسمه وتحدد وتحظر وتعاقب وتعفي وتحيل إلى القضاء أو تمتنع وتعدّل وتمدّد وتسعّر العملات عبر سياسة تعاميم المصرف المركزي وقد بات في لبنان نحو 8 أسعار بين رسمية وواقعية لسعر صرف الدولار! فكان سقوطه محتماً!
أصاب التراجع الحاد القدرة الشرائية للبنانيين العاجزين عن تأمين احتياجات السلة الغذائية، وغاب الأمان الاجتماعي والأمن شبه منعدم. بالتزامن مع احتلال تداعيات الاجتياح الروسي لأوكرانيا جداول أعمال دول العالم القلقة من المعطيات المخيفة عن الانعكاسات المتأتية عن خلل خطير في «الأمن الغذائي» العالمي... فإنهم في لبنان ورغم تصنيف البلد بين الدول الأشد فقراً التي ستواجه مجاعة حادة ككل البلدان التي نُكبت بهيمنة حكام طهران عبر أدواتها المحلية، ونتيجة الإفقار المنظم والنهب والعوز والانهيار المالي – الاقتصادي غير المسبوق، نجد أن قوى التسلط تفرغوا لصراعاتهم السلطوية، والحصص في برلمان 2022، ضاربين عرض الحائط بمصالح البلد وهموم أهله غير عابئين بالكارثة الزاحفة!
القمم والاجتماعات الدبلوماسية الرفيعة تتلاحق من شرم الشيخ، إلى النقب وبينهما العقبة، وكلها تزامنت مع التعديات الإجرامية الحوثية على مطارات ومنشآت نفطية في جدة وجيزان، فأوحت اللقاءات بما يشي ببدء مرحلة إعادة تشكيل المنطقة. السؤال الذي يطرح نفسه كيف سيكون التعاطي اللبناني؟ وهل ستتعامى الجهة الرسمية المفترض دستورياً أن القرار بيدها عن تطور لن يقبل المواقف الرمادية؟ وأكثر من ذلك هل سيكون لبنان الرسمي في خانة المعتدي على الأراضي السعودية، أم سيقدم حماية مصالحه الحيوية وحقوق أهله على ما عداها؟ ما يعني أن يمتنع لبنان عملياً عن لعب دور رأس الحربة ضد دول الخليج، كما تعهد رئيس الحكومة؛ لتكون العودة الخليجية إلى لبنان أبرز العناصر المساعدة على انتشال البلد، أو ينجح التحالف الثنائي بين «حزب الله» ورئاسة الجمهورية في ضرب عرض الحائط بحقوق اللبنانيين ومصالح لبنان!
تحثُّ طهران الخُطا لتعويم الاتفاق النووي كمقدمة للحصول على مليارات الدولارات، وفي ظلّ الشدِّ والجذب في فيينا، ينفذ وكلاء طهران، الميليشيات الحوثية في صنعاء، أوسع الاعتداءات ضد السعودية في سياق مخطط إجرامي يهدد إمدادات الطاقة إلى العالم، ولا يثير الحدث سوى ردود كلامية أميركية. وفي بيروت يروّج «حزب الله» سياسة يُراد منها «إقناع» المقترعين بأنه يدير عملية الانتخابات ضد من يطلق عليهم صفة «مرشحي السفارات» وتحت عنوان «إخراج النفوذ الأميركي وأزلام أميركا وإنهاء الحصار الأميركي»! ومعروف أن اختطاف الدولة بالسلاح ومخطط اقتلاع البلد هو ما يحاصر لبنان وأهله.
الأكيد أن الانتخابات التي لا يفصلنا عنها إلا 45 يوماً هي محطة مهمة جداً، تأتي بعد «17 تشرين» وجريمة تفجير المرفأ وترميد بيروت، والانهيارات المبرمجة التي دمّرت حياة المواطنين وأدخلت لبنان في مرحلة بؤسٍ مريع، وهي ستؤثر حتماً على كل المسار اللاحق، لكنها ليست كل شيء. قد تكون بداية كسر حلقة مفرغة بعدما حولوا الانتخابات طيلة العقود الماضية إلى طقسٍ شكلي، والتحدي أمام قوى التغيير قبل سواها أن تتمكن من إيصال صوت المقترعين لتكون الانتخابات محطة في المسار البديل لانتشال البلد.
خطاب قوى التغيير التشرينية واللوائح الموحدة في العديد من الدوائر، وهذا متيسر رغم كل الصعوبات، يعوّل عليها لتشكل رافعة للتغيير، بما يخدم هدف استعادة الدولة المخطوفة من خلال بلورة خطوات السعي إلى إيجاد ميزان قوى شعبي بديل، عابر للمناطق والطوائف، يوازي ميزان قوى على رأسه «حزب الله». إنه المنحى الحقيقي الذي يولي الالتفات الجدي لهموم الناس، وهي هموم مغايرة لهموم القوى المتسلطة التي وضعت على رأس أولوياتها إعادة تدوير المطلوبين للعدالة والمتهمين بالإرهاب ومحترفي اللصوصية والنهب والارتهان!
يدير «حزب الله» العملية الانتخابية بحرفية وباتت الهم الأول لأمينه العام نصر الله. يرفق حملته، كما الكومبارس الموالي له، بالتجريح بكل الآخرين وتخوينهم وقد تم تحديد الهدف بالحصول على أغلبية كبرى يقولون إنه ثلثا البرلمان فتطمئن الدويلة إلى تحكمها بالبلد وقدرتها على تعيين رئيسٍ موالٍ للجمهورية ووزراء من المريدين. الثغرة الأبرز، أمام طموحات «حزب الله» وفريق التسلط وأطراف رئيسية في تحالف نظام المحاصصة الغنائمي، هو هذا الاستخفاف بمناخٍ أوجدته ثورة تشرين، والاستخفاف بإمكانية مسؤولية هذه القوى عن جريمة تدمير قلب بيروت، وقد توحدوا لكسر التحقيق وتكريس «نظام الإفلات من العقاب».
تبدو قمة الوقاحة والصلف، أن المنظومة التي تغطي اختطاف الدولة وأدخلت لبنان زمن «قوارب الموت» تتحدث عن الإصلاح، وهم من تسبب في إفقار 80 في المائة من اللبنانيين، وأصبح 30 في المائة من أطفال لبنان ينامون جياعاً وفق دراسات دولية ذات صدقية. هنا يكون الرد عدم تضييع البوصلة لتنظيم أكبر تصويت عقابي يوقف احتقار اللبنانيين بعد إذلالهم، فيتجنب لبنان أكبر المخاطر!