عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

«مصائب قوم...»

قول قديم لن يختفي من قاموس المعلقين الحديث. نزاع أوكرانيا أنقذ أكثر من قبطان لسفن الديمقراطية الغربية، بعضها تعطلت بوصلته أو محركاته، واليوم تلتحق بأسطول يوجه أسلحته نحو روسيا. أسطول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وأوروبا الغربية، المكونة من الاتحاد الأوروبي وشركائه التجاريين، وبريطانيا ما بعد «بريكست». أجبرت حرب أوكرانيا بروكسل على إخراج رأسها من الرمال، وأدركت أوروبا أنها لا تستطيع الدفاع عن نفسها بلا بريطانيا، القوة الثانية الأكبر في «الناتو» وفي التحالف الغربي.
وغالباً سيلاحظ مؤرخو المستقبل أن معظم الزعماء المعاصرين للأزمة الحالية تباروا في تصعيدها بخطابة استفزازية، وغابت لهجة التهدئة العاقلة، حتى في قاموس الألمان الذين ظلوا الجانب ذا الصوت الأهدأ منذ 1945، واليوم يزودون أوكرانيا بالأسلحة.
الرئيس الأميركي جو بايدن، رفع حدة التوتر، إما بزلة لسان، (وهو الأرجح)، أو تعمد الإدلاء بتصريح غير واضح المعنى «الاستجابة بالمثل إذا استخدم الروس أسلحة كيماوية». لكن مصيبة الأوكرانيين والروس إفادته بإعادة تأكيد «قيادة» واشنطن للسياسة الغربية، بعد تراجعها في عهد سابقه دونالد ترمب (2017 - 2021) بسبب الأسلوب المظهري لا الجوهر الذي «لم يستلطفه» الأوروبيون.
الفائدة الأهم للأميركيين، كانت تأكيد التفوق الاقتصادي، وهو السلاح الأقوى الذي استله بايدن، صباح أول من أمس، بالاتفاقية مع الاتحاد الأوروبي بأن توفر أميركا خمسة عشر مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسيل، تصدر هذا العام إلى أوروبا لتقليل اعتمادها على الغاز الروسي.
اتفاقية الغاز، رمزية سياسية أكثر منها فائدة اقتصادية لأوروبا، ولها أبعاد، إيجابية وسلبية، إذا وضعت في إطارها التاريخي المعرفي.
تأثر الاتفاقية بالحسابات الاقتصادية سيظل محدوداً في المستقبل المنظور، ولا مساهمة فعلية لها في خفض أسعار الوقود، وتوفير نصيب معتبر لاحتياجات أوروبا للطاقة.
مصادر الغاز فقط (لا البترول) إقليمياً من النرويج وبترول بحر الشمال البريطاني، والأكثر من خارج أوروبا. النرويج، صدرت في العام الماضي 113 مليار متر مكعب (عبر ثلاثة أنابيب تعمل بأقصى طاقتها) إلى بقية أوروبا، وهناك تقارير بإمكانية إضافة ما بين 15 و25 مليار متر مكعب، لكن سيكون عن طريق غاز مسيل حتى إنشاء خط أنابيب إضافي.
إنتاج الغاز البريطاني من بحر الشمال بلغ 27 مليار متر مكعب في نهاية العام الماضي، لكن أغلبه يذهب للتصدير، وسياسة الطاقة الخضراء وهوس البيئة منع التنقيب عن حقول جديدة، مما يضطر بريطانيا للاستيراد.
المصدر الأكبر للغاز الأوروبي يأتي من الخارج، إما مسيلاً بالناقلات والكثير عبر الأنابيب.
أربعة من الشمال الأفريقي، أنبوب من أذربيجان، وعدة (ثمانية) أنابيب من روسيا.
بلدان أوروبا الغربية تستورد من روسيا أكثر من 160 مليار متر مكعب سنوياً عبر الأنابيب مباشرة (وهي الوسيلة الأرخص والأسرع والأكثر ضماناً واستقراراً) بجانب ما بين 14 ملياراً و18 مليار متر مكعب غاز مسيل.
ويستطيع أي تلميذ في المدرسة الابتدائية أن يحسب أن ما يعد به الأميركيون (15 مليار متر مكعب) هو ثمانية في المائة فقط من واردات الغاز الروسي سنوياً.
رئيسة الاتحاد الأوروبي، إيرسلا (أورسولا في النطقين الفرنسي والألماني) فون دير لاين، تأمل أن يرتفع التصدير الأميركي إلى أوروبا في السنوات المقبلة إلى 50 ملياراً، وحتى إذا أمكن التوصل إلى هذا الرقم في بضع سنوات فلن يمثل ذلك سوى 28 في المائة من احتياجات أوروبا من الغاز إذا لم يزدد مطلب الاستهلاك.
ولأنه من المستحيل بناء أنبوب نقل غاز عبر الأطلسي (كحال الأنابيب عبر بحار البلطيق، والشمال، والأدرياتيك، والمتوسط، ومضايق جبل طارق، والدردنيل)، فإن الوسيلة الوحيدة هي تصدير الغاز الأميركي مسيلاً بالضغط المبرد في الناقلات، وهي الوسيلة الأكثر بطئاً وتكلفة. أثمان الغاز المستورد (وبالطبع للمستهلك) تحددها عدة عوامل، بجانب العامل الأساسي للسلعة، وهو العرض والطلب.
العامل الأول هو المسافة الجغرافية، وثانياً الـ«Terminals»، أي نقطتا التصدير والاستيراد، حسب وسيلة النقل. هنا تظهر أهمية الأنابيب وسهولتها مقارنة بالغاز المسيل، لأن العامل الثاني تحدد مدى كفاءته الاقتصادية عوامل أخرى؛ كإنشاء تسهيلات صناعية لتحويل الغاز إلى سائل مضغوط لضخه في الناقلات، وثانياً، السعة التخزينية لمحطتي التصدير والاستيراد، أي صناعة أخرى موازية تستهلك بدورها طاقة وفترة إعداد للمنشآت ومستودعات التخزين. وبجانب أنها لن تحل المشكلة الحالية التي تواجه أوروبا (ارتفاع أسعار الطاقة، والاعتماد على الغاز الروسي) فإنها ستزيد من تكلفة المتر المكعب، أولاً للمورد الأميركي - الذي لا شك سيضيف هذه التكاليف إلى الثمن، وثانياً المستورد الأوروبي، الذي لن يدفع الثمن الذي يحدده المورد فحسب، بل سيحتاج ميزانية باهظة لبناء محطات الاستيراد والمستودعات، وشبكة ضخ جديدة. المورد الأميركي ليس الإدارة الأميركية إلى يرأسها بايدن، وإنما مؤسسات مسؤولة أمام حملة الأسهم، وأوروبا ليست «الزبون» الوحيد، فهناك بلدان الشرق الصناعية، وقد يجد المورد الأميركي ربحية أكثر ببيع الغاز لها (فهي أقرب جغرافياً) بتكلفة أقل.
الأوروبيون يأملون في توفير أكثر من 15 مليار متر مكعب عن طريق «إجراءات تقليل الاستهلاك»، بجانب «طاقة خضراء» من الرياح والشمس وغيرها لتوفر 20 مليار متر مكعب، حسب تصريحات زعماء بروكسل، وهي تمنيات مصدرها آيديولوجي أكثر منها واقعية، لأن هوس البيئة والطاقة الخضراء، الذي تحول إلى ما يشبه عقيدة مقدسة تجتاح المجتمعات الغربية، سيتبخر بحرارة غضب الاصطدام بواقع الفواتير الجديدة مع ارتفاع تكاليف المعيشة. بناء محطة توليد طاقة من الرياح يستغرق ما بين خمس إلى سبع سنوات (وقد تطول المدة بمشكلات قانونية إذا اعترض سكان المنطقة على إنشائها)، بجانب محطة تعمل بالغاز كاحتياطي عندما لا تهب الرياح.
صفقة الغاز الأميركية الأوروبية التي هللت لها مانشيتات الصحف، «كبديل عن الغاز الروسي»، ليس لها تأثير اقتصادي يغير موازين الصراع، أو يعوض المواطنين الأوروبيين عن ارتفاع أسعار الطاقة.
يبدو أن الغرض سياسياً (ليس حتى مناورة ذات معنى، خصوصاً بعد طلب موسكو دفع ثمن الغاز المصدر بالروبل لا الدولار الأميركي)، أو بالأحرى سلاح آخر في ترسانة البروباغندا التي لا تزال كفة الميزان فيها تميل لصالح التكتل الغربي في المباراة الدائرة على رقعة الشطرنج الأوكرانية.