داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

حين يتحول السلاح النووي إلى «تهديد» لا «تنفيذ»

بعد أربعة أسابيع من بدء الحرب الروسية – الأوكرانية التي راح ضحيتها عشرات الألوف من المدنيين والعسكريين من الجانبين، وتدمير مدن كثيرة في أوكرانيا بالقصف الجوي اليومي والدبابات والمدفعية والصواريخ، وزحفت سيول من اللاجئين الأوكرانيين إلى دول الجوار وغير الجوار، تبين أن الأسلحة النووية يمكن أن تجعل العالم أكثر أماناً وسلاماً من الصواريخ والطائرات الحربية والمسيّرات (الدرون) والدبابات والمدافع.
اتضح بعد هذه الأسابيع الأربعة الدامية أن محاولات التخلص من القنابل الذرية خطأ جسيم ليس في مصلحة البشرية، خلافاً للرأي السائد بأنها أسلحة دمار شامل. لقد تفوقت الأسلحة التقليدية على الأسلحة النووية بعكس الاعتقاد الشائع الذي كانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تروّج له أو تحذر منه.
لقد أمضى العالم أكثر من 75 عاماً يدعو إلى وضع حد لانتشار الأسلحة النووية، وشهدت الشوارع مظاهرات ولافتات تدعو إلى إزالة هذه الأسلحة بشكل طوعي أو مُلزم في الدول المتقدمة والدول النامية. وتَعاقب الرؤساء الأميركيون والأوروبيون والآسيويون، وحتى الأفارقة، على الدعوة إلى مراقبة الدول «المشبوهة» بإقامة مفاعلات نووية سرّية لتصنيع قنابل نووية وشن حروب ذرية على جيرانها أو أعدائها. إلا أن أياً من هذه الدول النووية لم تتقدم خطوة واحدة لتحقيق مطالبها. بل إن هذه الدول كانت، وما زالت، تحارب بالأسلحة التقليدية ومضاداتها. وكاد العالم يخنق الممتنعين أو المتلكئين عقاباً لهم على مضيهم قُدماً في طريق المفاعلات والقنابل الذرية التي دمرت هيروشيما وناغازاكي في عام 1945.
ذهب ذلك الزمان وجاء زمان آخر. الهند وباكستان دولتان نوويتان في قارة واحدة وجارتان العمر كله، بل كانت باكستان جزءاً من إمبراطورية الهند إلى أن انفصلت عنها عام 1947 وصار اسمها جمهورية باكستان الإسلامية. ومنذ ذلك العام كانت العلاقات بين الدولتين متأزمة بسبب مشكلة مقاطعة كشمير، وقامت بينهما أكثر من حرب ومناوشات، إلا أنهما لم تقتربا من خزينهما النووي لحسم الحرب أو حتى التهديد به.
وإسرائيل واحدة من الدول النووية بفضل المساعدة الفرنسية، إلا أنها لم تستخدم هذا السلاح الفتاك في أي حرب خاضتها سواء ضد مصر أو سوريا أو الأردن أو الفصائل الفلسطينية أو إيران أو العراق؛ ليس لأن هذه الدول نووية، فكلها ليست لديها أسلحة ذرية تحارب بها إسرائيل أو غيرها. ومشكلة إسرائيل أن سلاحها يمكن أن يرتدّ عليها بسبب تقارب الجبهات الحربية بينهم. الوحيد الذي حارب باختراع مبتكر هو الرئيس السوري الحالي بشار الأسد الذي لجأ إلى قنابل الدول الفقيرة، وهي البراميل المتفجرة التي يتم قذفها من الطائرات المروحية على المدن المأهولة والعمارات المسكونة كما حدث في حلب ويبرود وغيرها. وهو سلاح يبث الرعب لعدم دقته وتكلفته الرخيصة وتوسُّع النظام في استخدامه على المدن والأحياء الثائرة. وتتكون هذه البراميل من ديناميت يُشترى بعضه من لبنان، وكذلك ما يفيض من عبوات وذخائر غير متفجرة وعملات معدنية سُحبت من الأسواق ونفط وقذائف مدفعية مستعملة.
إيران تبذل المستحيل لاستكمال مشروعها النووي على الرغم من الرقابة الدولية. وحذر المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافايل غروسي، في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، من فشل رقابة المنشآت النووية الإيرانية وتكرار سيناريو كوريا الشمالية، وهو ما قد يصل إلى مستوى كارثي في المنطقة، على حد تعبيره.
ومنذ أشهر كثيرة تجري مباريات مملة بكرة نووية في فيينا للتوصل إلى صيغة رقابة جديدة لا تُسبب صداعاً لطهران ولا تعيد السيناريو العراقي بما تسمى أسلحة «الدمار الشامل» الذي اُتّخذ ذريعة ملفقة لشن حرب أميركية وحشية على العراق في عام 2003، لم تُسقط النظام العراقي وحده، لكنها أسقطت العراق نفسه في أحضان إيران الملالي. وحدها إسرائيل في الشرق الأوسط لا تخضع لأي رقابة لا قبل إكمال مفاعلات ديمونة ولا بعد ذلك بفضل الحماية الأميركية.
في عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما شهد مجلس الأمن لقاءً خاصاً حضره 14 من قادة العالم آنذاك، وعلى جدول الأعمال موضوع واحد، هو كيفية تخليص العالم من الأسلحة النووية. ومثلما الحال اليوم، كان النموذجان اللذان تعرضا للتشريح إيران وكوريا الشمالية. والأمر ليس جديداً؛ فهذا الموضوع كان على اللوحة منذ إدارة الرئيس الأميركي الأسبق آيزنهاور. وخلص اجتماع أوباما مع نخبة من القادة النوويين إلى آمال وأحلام وتمنيات من دون أن يبادر صاحب الدعوة أوباما إلى خطوة واحدة لتشجيع الآخرين على تبني الفكرة، لأن كل الدول التي تمتلك قنابل نووية تعتقد أن هذا السلاح في أي حرب يعني ما يعنيه حق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن. أي أن امتلاك المفاعلات النووية امتياز لأي دولة عضو في «النادي النووي». أما الدول الأخرى التي تسعى لتحقيق هذا الهدف «الاستفزازي»، فمن غير المسموح لها أن تخرج عن بيت الطاعة، خشية ظهور «ترومان» آخر لا يتردد في إلقاء قنبلة ذرية على «الهايد بارك» الشعبي في لندن أو مجلس الأمن في برج الأمم المتحدة في نيويورك!
يقول الصحافي الأميركي جوناثان تيبرمان، إن الأبحاث العسكرية التي تناولت هذا الموضوع تتفق في نقطة واحدة، وهي أن الأسلحة النووية قد لا تجعل العالم أكثر خطورة مما هو الآن، لكنها قد تجعلنا أكثر أماناً. فلا يُقْدم الرئيس الروسي بوتين – مثلاً – على استخدام قنابله الذرية على أوكرانيا، وفي الوقت نفسه لا يجرؤ الرئيس الأميركي بايدن على الدفاع عن أوكرانيا بما يملكه من قنابل ذرية. وهو التفسير الصعب لحالة «الشلل النووي» في هذه الحرب ما دامت الأسلحة الأخرى التقليدية تقوم بالواجب. وهو كلام شديد الوطأة وقد يصفه البعض باللاواقعية. إذن نحن نتفق مع أوباما في هذه النقطة فقط إذا كان قد استطاع أن يخطو شبراً واحداً على طريق الحروب الأقل خسارة في البشر والحضارة والمستقبل.
في الحرب النووية أو ما يسميه العلماء «السلاح المُطلق» لا إمكانية لوجود منتصرين بالمعنى الحرفي للكلمة. وتُدرك الدول النووية أن الميزة في هذا السلاح القاصف الحارق المزلزل تكمن في «التهديد» لا «التنفيذ». وكل ما على أي دولة نووية لردع هجوم ذري هو أن تعلن أنها إذا تعرضت للحرب، فإنها ستردّ. وحين تعلن دولة ما أنها تحوز القدرة على تنفيذ ضربة نووية رداً على الضربة الأولى، فليس معقولاً هنا أنها ستتعرض لهجوم نووي بالمرّة.
أصدر العالم الأميركي فريد كابلان كتاباً في عام 1983 تحت عنوان «السَّحَرة» لتوصيف الاستراتيجيات النووية، وقال إن الولايات المتحدة خسرت احتكارها النووي عام 1949 إلا أنها بقيت أقوى دولة في العالم بفارق كبير عن روسيا (الاتحاد السوفياتي سابقاً). وأضاف: «إن الرد النووي على عدوان غير نووي بعيد عن أميركا كان مثل صيد عصفور بمدفع». وكان وزير الخارجية الأميركي الداهية هنري كيسنجر قد أثار في عام 1957 فكرة «الأسلحة النووية التكتيكية الأصغر». غير أن علماء نوويين ردوا على كيسنجر بأن استخدام هذه الأسلحة الأصغر سيؤدي إلى اشتباك نووي كامل. ومع ذلك فإن الولايات المتحدة، كما قلتُ في مقال سابق في «الشرق الأوسط»، تحتفظ بمائة قنبلة نووية أميركية أصغر مما لديها في دول ألمانيا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا وقاعدة «إنجرليك» في تركيا التي انطلق منها العدوان الأميركي غير النووي على العراق في عام 2003.
كثيرون يتساءلون: هل ستحدث مواجهة نووية بين أميركا وروسيا على خلفية الحرب الأوكرانية؟ المنطق ينفي هذا الاحتمال لأن لا أحد ينتصر في الحرب النووية الثنائية، وهذا هو مفتاح القول بأن السلاح النووي أكثر أماناً وسلاماً من أي أسلحة أخرى.