حنا صالح
كاتب لبناني
TT

عن متسلطين يخشون شعبهم!

إذا تم التزام الاستحقاق الدستوري! إنها العبارة الأكثر رواجاً في لبنان، إنْ على ألسنة الجهات الدبلوماسية والسياسية، كما الإعلاميين وكذلك كل المواطنين، فيما الفترة الزمنية الفاصلة عن الخامس عشر من مايو (أيار) باتت أقل من 3 أشهر، وهو موعد انتخاب برلمان 2022!
لم يسبق لاستحقاق من هذا النوع أن استبق بمثل هذا الكم من التخويف وترويج معلومات لا مصداقية لها، خلصت إلى أن لا جدوى من الانتخابات. وروّجت جهات بأن نقاشات مفتوحة تدور بين جهات قالت إنها بعيدة عن «حزب الله»، تطرح السؤال حول الغاية منها في ضوء موازين القوى الحالية، وطالما لا أمل في التغيير فما الفائدة من إشغال البلد في ورشة انتخابية؟ ويكفي لبنان ما فيه!
مملة جداً تنبؤات خبراء استطلاعات الرأي، التي روجت لها وسائل الإعلام وتبناها كل السياسيين تقريباً وهم من مولها أساساً. زعموا أنهم استندوا إلى العلم وقياس الرأي، وقراءة السلوك الانتخابي للبنانيين، فتقصدوا تيئيس الناس والقفز فوق ثورة «17 تشرين»، وكأن لبنان لم يشهد هذا الكم من الانهيارات الخانقة، التي لم تقتصر على المال والاقتصاد والأعمال، فتعدتهم إلى انهيار القيم الأخلاقية والإنسانية. ضخ إعلامي قفز فوق مطالب شعب ثائر يريد التغيير، صنع ثورة عابرة للطوائف والمناطق، وإن عجز عن إسقاط نظام المحاصصة المحمي بفائض قوة «حزب الله»، فإن «ثورة تشرين» بالمقابل أثبتت أنها عصية على التطويع.
هذه المرة القوى المهيمنة يتقدمها «حزب الله»، ومعه القانون الانتخابي النافذ المتصادم مع الدستور، لا يعرفون سلفاً النتائج، ويخشون أن تكون مغايرة عن كل ما سبقها. فطيلة العقود الماضية كان تقبل التهاني يبدأ مع إعلان اللوائح، والفارق لا يتجاوز تفاصيل مسموحاً بها، تكون شبه معلومة، منذ ما قبل فتح صناديق الاقتراع. كما أن المعارك بين أطراف نظام المحاصصة، كانت بهدف تحسين المواقع لتزداد الحصة ويتسع الاستئثار، ولم تكن يوماً بين برامج متصادمة ورؤى مختلفة للبنان. والدليل معروف عندما كان ينتهي الأمر بهم جميعاً بمشاركة مختلفين شكلاً في سرير حكومي واحد، يختصر مجلس النواب ويلغي دوره الرقابي.
لذلك يدور البحث الحقيقي عن السبيل لإطاحة الانتخابات، توجساً من نتائجها رغم ما لدى المنظومة من وسائل للتأثير ترهيباً وتزويراً بعد شراء الذمم! ولا يغير من الأمر أن يكرر نصر الله تباعاً أن التغيير الممكن سيكون طفيفاً لا يبدل في ميزان القوى. لكن اللافت أن الحريري يجاريه ولو من موقع مقابل ليبرر قرار «تعليق» تياره المشاركة السياسية بنتيجة عدم «قدرة أحد على تعديل الوقائع المحلية في الفترة المقبلة». ومن فاته الإدراك أن 17 سنة، أكثر من كافية للتيقن من الفشل وما ترتب عليه، يريد الإيحاء أن وراء اعتماد بدعة «التعليق» ستكون عودة إن نجح اللبنانيون في كسر الاستهداف الكبير، عندها ما الحاجة إليه ومن هم مثله؟ وبأي حال خلص الحريري إلى نتيجة إدارة الظهر للانتخابات لأنها «ستكون وبالاً»!
صورة هذا المنحى التعطيلي تتكثف وتتظهر معالمها كل يوم، لذلك تستمر الدعوات الخارجية لحث الجهات اللبنانية على التزام الاستحقاق الدستوري، والتنبيه من الخطر المحدق بالاستحقاق الرئاسي أيضاً. في هذا السياق نبه لقاء سفراء الدول الداعمة للبنان إلى ضعف المواكبة اللوجيستية، وحثت المجموعة على «التزام الإطار القانوني النافذ»، وتوفير الموارد المالية لها وضمان حق المغتربين. وفيما بدا موقف أصدقاء لبنان بمثابة التنبيه قبل فوات الأوان، حمل حديث رئيس الجمهورية إشارة خطرة إلى احتمال إرجاء العملية الانتخابية، عندما قال: «أنا أكثر العالمين بأن ليس لدينا مال، ليس لإجراء الانتخابات وحسب، بل لأي أمر آخر. ربما لهذا السبب قد يتكون عندي خوف على الانتخابات والخشية من عدم إجرائها»!
طبعاً إطاحة الانتخابات النيابية لا يمكن أن تكون لعدم توفر الأموال اللازمة، والحديث عن نحو 15 مليون دولار لا غير، فحكومة «الثورة المضادة» أهدرت نحو ملياري دولار خلال 6 أشهر، من ضمنها نحو 500 مليون دولار ما بعد 20 يناير (كانون الثاني) على منصة «صيرفة»، شراء للوقت، ولخفض مفتعل في سعر صرف الدولار، استند إلى تجفيف الليرة من السوق، لم ينعكس مطلقاً على أسعار السلع بل فاقم التردي المعيشي. إن القضية في مكان آخر مرتبط بالمعطيات الجدية المتوفرة عن السلوك الانتخابي المتوقع للبنانيين.
في الأشهر الماضية استهدفت الثورة: ماذا فعلت؟ وكيف ستخوض الانتخابات وتوحدها صعب، وحين بدأ إطلاق لقاءات التغيير التي تعتمد قياس الرأي الشعبي في اختيار المرشحين، بدأت الصورة تتبدل. وازداد التوجس مع برامج سياسية تمحورت حول مطلب استعادة الدولة المخطوفة بالسلاح، وأهمية البرلمان كمحطة على طريق بلورة البديل السياسي. لكن ما قيل في لقاء النبطية أبرز السقف السياسي الذي ستخاض تحته المعركة الانتخابية: «إذا كانت المنظومة مسؤولة بكليتها عما وصل إليه الحال، فإن (حزب الله) مع حليفيه الرئيسيين وبقية حلفائه الممسكين بالسلطة التنفيذية والتشريعية يهربون إلى الأمام، ويبددون آخر ما تبقى من ودائع هي ملك للبنانيين»، يصبح مفضوحاً السبب وراء منحى نسف كل الاستحقاقات الدستورية، والسعي لإنتاج صفقة بين أطراف نظام المحاصصة، تشمل التمديد للبرلمان الفاقد الشرعية وبقاء عون في القصر، والتوافق على بدائل عن رياض سلامة حاكم مصرف لبنان وقائد الجيش العماد جوزف عون.
السؤال اليوم ماذا يريد «حزب الله» من الانتخابات وهل يسمح بها؟ وأجاب نصر الله عن السؤال بأنهم يريدون أن تؤمن «كثراً في البرلمان لحماية المقاومة»، وحذر من أي رهان على تغيير ميزان القوى للمس بالسلاح! وفاته تفصيل هو المتعلق بحماية الرغيف وحبة الدواء، والأكيد ليس «حزب الله» وحده الذي لا يلتفت للمناشدات اليومية التي تطالب بأدوية للأمراض المستعصية القاتلة، فهذه سمة كل من أوصل البلد إلى الحضيض. لذلك تبقى الأولوية «المقاومة»، وهذا فصله الشيخ نعيم قاسم، عندما قال إن «المقاومة» مبدأ، وما قامت به في لبنان كان الظرف، وإن تغير الظرف (حدث التحرير) فالمبدأ لا يتغير، أي أن «المقاومة» بيت القصيد، وكل خطوة يجب أن تخدمها ومن لديه أغلبية نيابية اليوم لماذا يعرضها لامتحان!
في عام 2005، وإثر «انتفاضة الاستقلال»، عاش لبنان لأيام حالة ثورية خافت قيادتها من شعبها، فهرعت إلى «الاتفاق الرباعي»، وخانت آمال الناس بقيام مشروع الدولة الطبيعية الحديثة مكان الدولة - المزرعة. واليوم يسود خوف المتسلطين من ناخبين غاضبين، ولأن الانتخابات هي فرصة لحساب مستبدين وصفهم الرئيس تمام سلام بـ«نفايات سياسية»، فالقلق كبير ليس فقط من تصويت المغتربين وأكثرهم هجروا ونهبت ودائعهم، بل أيضاً من المقيمين في المآسي محاصرين بالعوز والجوع وانتهاك الكرامات. وليس أمراً بسيطاً ظاهرة التوحد حول هدف استعادة الدولة والدستور وبسط سيادة الشرعية حتى يكون متاحاً تحقيق المطالب وحماية الحقوق، لذلك يحيط الخطر بكل الاستحقاقات الدستورية!