فاي فلام
TT

الرقابة ليست سبيلاً لمكافحة المعلومات العلمية الزائفة

يظن الكثيرون أن باستطاعتهم تمييز المعلومات الخاطئة بمجرد معاينتهم لها، إلا أنني في واقع الأمر أمضيت أكثر من عام في دراسة المعلومات الطبية الخاطئة كجزء من برنامج «زمالة بويليام»، وتوصلت إلى أن المصطلح ليس مفيداً. من ناحيته، يطلق القاموس على مثل هذه النوعية من المعلومات، «معلومات خاطئة، خصوصاً تلك التي تهدف إلى الخداع عمداً». الحقيقة أن الكثير مما يُعرف باسم المعلومات الطبية الخاطئة هو في الواقع رأي الأقلية -ويمكن تقديم ذلك بطريقة مسؤولة أو بطريقة مضللة.
وينطبق هذا التمييز على نجم بودكاستر «سبوتيفاي»، جو روغان، ومقابلاته المثيرة للجدل مع علماء. وكانت الحلقة الأكثر تعرضاً للانتقادات تلك التي استعرضت مخاوف عالم الأحياء روبرت مالون، بخصوص لقاحات فيروس «كوفيد - 19»، وهي مخاوف لا تنتمي للتيار العلمي الرئيسي السائد. ومع ذلك، ليس هناك ما يستدعي الاعتقاد بأن مالون كان يكذب، وليس أنه يعبر عن آراء يؤمن بها بثقة مفرطة ومبالغ فيها بشدة.
في الأمور الطبية، ربما يتسبب نشر آراء الأقلية في إقدام البعض على اتخاذ قرارات سيئة، مثل رفض تناول تلقي لقاح «كوفيد - 19». وعليه، فإن إضافة فقرة نصائح للحلقات وتوجيه المستمعين نحو المزيد من المعلومات، قد يبدو حلاً معقولاً في هذا الإطار. إلى جانب ذلك، فإن ما يشير إليه مشاهير المطربين ومعجبوهم بوصفها معلومات مضللة، يحمل في واقع الأمر سمة ذاتية تجعل من المستحيل فرض رقابة شرطية عليها على نحو علمي منهجي.
الحقيقة أن هناك طيفاً واسعاً من آراء الأقلية في مجال العلم -منها ما هو جريء وما هو متبصر وما هو مجنون وخطير. أما السؤال الأهم أمام «سبوتيفاي»، وأي شخص يصنع أخباراً عن الصحة أو يستهلكها، فهو كيفية معرفة الاختلاف وتقديم آراء الأقلية بشكل مسؤول، في السياق الصحيح، حتى يتعرف المشاهدون على النقطة التي يكمن عندها رجحان الأدلة.
ويعني ذلك مطالبة أولئك الذين يتمسكون بآراء أقلية بدعم حججهم بالمنطق والأدلة -بدلاً عن التباهي بصلاتهم أو صور التكريم التي نالوها.
من جانبي، أجريت أنا وروغان مقابلة مع الكاتب العلمي غاري توبيس، على سبيل المثال، الذي نالت وجهة نظره التي تنتمي لتيار الأقلية بشأن الأنظمة الغذائية الغنية بالدهون، قبولاً متزايداً. كما أجريتُ مقابلة مع خبير اللقاحات بول أوفيت، المنتمي إلى التيار السائد، إلا أنه ألّف كتاباً يثير ثغرات في مجموعة متنوعة من المعتقدات الطبية السائدة، من الحاجة إلى فحوصات السرطان إلى الفيتامينات اليومية إلى ضرورة محاربة الحمى. وفي الآونة الأخيرة، اتخذ معياراً مخالفاً للتيار الرئيسي من خلال رفضه فكرة جرعات اللقاح المعززة.
الحقيقة أن مشكلة الحلقة التي شارك فيها روبرت مالون لم تكن انتقاده للقاحات «كوفيد - 19»، ومن المهم النظر إلى جميع التدخلات الطبية على نحو نقدي. من الناحية الظاهرية، ربما يبدو مالون مصدراً معقولاً لمناقشة الوباء، فقد أجرى بعض التجارب الذكية منذ 30 عاماً والتي ساهمت في إرساء الأساس العلمي للقاحات المعتمدة على تقنية الرنا المرسال. بيد أن المشكلة الحقيقية تكمن في اعتماد نقد مالون على مجرد تكهنات لا أساس لها.
لقد استمعت إلى حلقة روغان كاملة، والتي زادت على ثلاث ساعات مع مالون، واكتشفتُ أنها تناولت الكثير من الموضوعات التي سبق أن تناولتها في البودكاست الخاص بي، الذي يحمل عنوان «اتّبع العلم»، ومنها الاستعانة بعقار إيفرمكتين كعلاج تجريبي، والآثار الجانبية للقاحات «كوفيد - 19»، بما في ذلك اضطرابات الدورة الشهرية، والقلق من أن اللقاحات ربما تزيد المرض سوءاً، وأوجه القصور في التجارب السريرية الخاصة باللقاحات، والارتباك حول تأثير اللقاحات على قدرة الفيروس على العدوى والانتقال بين الأفراد ومشكلات العلم المسيّس.
إلا أنه على خلاف الحال مع مالون، تحدث الأشخاص الذين أجريتُ معهم المقابلات في الغالب ضمن مجالات خبرتهم المحددة، وقدموا الكثير من الأدلة العلمية الداعمة لآرائهم. كما توصلوا إلى استنتاجات مختلفة للغاية عمّا فعله. ولم يكتفِ البعض، مثل الكيميائي ديريك لوي، باستخدام البيانات فحسب، بل كذلك فهمهم للكيمياء الحيوية لشرح سبب احتمالية ألا يكون إيفرمكتين علاجاً ناجعاً لـ«كوفيد - 19» (حتى وإن كان يعالج أمراضاً أخرى)، ولماذا من غير المحتمل أن تتسبب اللقاحات في زيادة احتمالية التعرض للمرض (رغم أن ذلك حدث بالفعل مع بعض اللقاحات الأخرى).
وقد واجه مالون الكثير بنفسه، وكانت حججه مشتتة ولا تستند في الغالب إلى الأدلة، وإنما استندت إلى وضعه المزعوم داخل وزارة الدفاع الأميركية والوكالات الحكومية الأخرى. في بعض الأحيان، كانت هناك نواة من البيانات الحقيقية، لكن جاءت تفسيراته مثيرة للقلق. من ناحية أخرى، أثار خبراء آخرون مخاوف بشأن عدم انتظام الدورة الشهرية لدى النساء اللائي حصلن على لقاحات «كوفيد - 19». وعن هذا الأمر، اقترح روغان أن الحقن قد تسبب في انقطاع الطمث المبكر، إلا أن هذه النقطة بحاجة إلى دحض.
وفي إطار اعتذار قدّمه، وعد روغان بمحاولة استضافة ضيوف «بآراء مختلفة». بالتأكيد هذا أمر جدير بالثناء، لكن ما يهم حقاً هنا التأكد من أن المستمعين يعرفون أين تكمن نقطة الإجماع العلمي.
المؤكد أن الشخصيات الجريئة ستأسر دوماً خيال الجمهور. عام 2012 أجرى روغان مقابلة مع شخصية مشابهة للغاية لمالون - بيتر دويسبرغ، الذي كان عالماً مشهوراً في مجال الفيروسات وله وجهة نظر متناقضة مفادها أن فيروس نقص المناعة البشرية لا يسبب الإيدز. أما زملاؤه، فقد قالوا إن انتقاد دويسبرغ للعلم السائد كان ذا قيمة في الثمانينات، لكن هناك الآن أدلة دامغة على أن فيروس نقص المناعة البشرية يسبب الإيدز.
وقد أعطى الكثير من الصحافيين المشهورين اهتماماً ووقتاً للبث الذي شارك فيه دويسبرغ، لأن الجمهور يعشق القصص المثيرة عن المستضعفين -انتصار المتمرد الذي لم يصدقه أحد. وهذا تحديداً أحد الأسباب التي دفعت وسائل الإعلام لمنح الرئيسة التنفيذية لشركة «ثيرانوس»، إليزابيث هولمز، التصديق الفوري لادعائها أنها تُحدث تغييراً جوهرياً في عالم اختبارات الدم. ومع ذلك، فإن عبء الإثبات يجب أن يقع على عاتق المنشق عن التيار الرئيسي لتقديم أدلة قوية. إلا أنه بدلاً عن ذلك، اعتمد مالون وهولمز على إسقاط الأسماء والتلميح، بل أحياناً استعراض جنون العظمة.
أحياناً، يمكن أن يكون الحشد على خطأ. وبالتأكيد تستحق الآراء المخالفة الاستماع إليها، ما دام مَن يقدمها يرفق معها أدلة وحججاً عقلانية. ويشير الاحتمال الأكبر إلى عدم نجاح مطالب الشركات الإعلامية بمراقبة «المعلومات المضللة»، وتلك المهمة في حقيقتها ليست بهذه البساطة. الحقيقة أن الناس لا يعرفون المعلومات المضللة عندما يرونها.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»