يبدو أن المجتمع الدولي قد أدرك أخيرا الخطأ الذي وقعت فيه دول التحالف بعد سقوط سلطة العقيد القذافي في أكتوبر (تشرين الأول) 2011 وهو خطأ الانسحاب السريع ودون تأمين الوضع الجديد، ودون وضع خطة لنزع سلاح المجموعات المسلحة التي تحولت إلى قوة معرقلة لبناء مؤسسات الدولة. ومنذ عدة شهور تحركت بعثة الأمم المتحدة بدعم دولي قوي لإيجاد حلول سياسة بين أطراف الصراع، مستعملة كل الوسائل الممكنة المسموح بها من مجلس الأمن وكانت البلاد قد عرفت نحو عامين ونصف العام من التخبط السياسي والأمني والاقتصادي، الذي قاد إلى الانقسام الخطير والذي ما لبث أن تحول في منتصف 2014 إلى مغامرات عسكرية، أدخلت كل الوطن في حرب شبه أهلية، بل إن البعض يصفها بالحرب الأهلية، وتارة توصف بالحرب القبلية أو الجهوية، وهي وإن كانت تختلف من منطقة إلى أخرى، فالنتيجة واحدة والخسائر البشرية والمادية هي خسائر ليبية، وآثارها مدمرة للدولة والشعب على حد سواء. ومع التصعيد العسكري الذي تشهده البلاد لأكثر من 8 شهور هناك عنصر جديد زاد من المخاطر التي تحيط بالجميع، وهو دخول تنظيم داعش إلى الميدان. وإذا كان هناك بقية من عقل ومن شعور بالمسؤولية لدى السياسيين والعسكريين المحسوبين على ثورة 17 فبراير (شباط) ومن يؤيدهم، فالخيار المفتوح أمامهم هو خيار المفاوضات التي تقودها الأمم المتحدة، لأنه من المصلحة الوطنية والدولية أن تكون ليبيا مستقرة وآمنة، وقادرة على ضبط حركة الهجرة من الجنوب إلى الشمال، وقادرة كذلك على ضبط حدودها مع تونس والجزائر ومصر وغيرها من دول الجوار. لقد بدأت جهود بعثة الأمم المتحدة بعملية واسعة من الحوار شملت تقريبا كل الأطراف. والحوار يعني تبادل الأفكار ووجهات النظر في مسائل عدة، أما ما جرى خلال بضعة أسابيع مضت، وما سيجري قريبا في الصخيرات المغربية فهو تفاوض والتفاوض عملية سياسية دقيقة وشاقة، تهدف إلى الاتفاق على حلول مكتوبة، وتتطلب أولا الاستعداد الفكري والنفسي لإعطاء تنازلات من كل الأطراف، للوصول إلى حلول توافقية لمصلحة الوطن والشعب. لقد جرب الجميع منطق القوة واستعمال السلاح، وذاق الجميع ويلات الاقتتال، وما نتج عنه من هلاك للأنفس والعمران، وما خلفه من جروح وآلام.
إن الفشل في هذه المرحلة من المفاوضات يعنى المزيد من الفوضى وانعدام الأمن والمزيد من التهجير والدمار والفساد، ويعنى وجود حالة إفلاس من قيم الانتصار على الذات، والقدرة على تصحيح الأخطاء، وهي قيم الخير والصلاح والنبل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجميعها مثل وقيم إسلامية غاية في السمو والإنسانية. إن مفاوضات الصخيرات بعد توقف استمر عدة أسابيع يجب ألا تستخدم مسرحا لمجرد الكلام وتسجيل المواقف، لأن الوقت لا يسمح بذلك.
هناك انهيار اقتصادي وهناك مئات الآلاف من الليبيين الفارين من جحيم الاقتتال يعانون في شتى دول العالم، ويتطلعون إلى حل سياسي يفتح لهم أبواب الأمل للعودة إلى وطنهم إلى بيوتهم إلى حياة آمنة. هؤلاء جميعا ومعهم من صبروا وظلوا في داخل الوطن، تتجه أنظارهم وقلوبهم وعقولهم إلى نتائج مفاوضات الصخيرات المقبلة، والتي تأتي في مرحلة مليئة بالتحديات على الصعيدين الوطني والإقليمي. ومن يتابع المعارك الإعلامية والحوارات التلفزيونية، يلاحظ أن لغة التعنت وغياب السياسات الحكيمة ما تزال هي المسيطرة على الخطاب العام، إضافة إلى أعمال الاقتتال وهنا تقع بعض المسؤولية على المجتمع الدولي بكل أطرافه الإقليمية والدولية في استمرار التواصل مع كل أطراف الصراع لحلحلة الصعوبات، والتوصل إلى حل سياسي يكون لصالح بناء دولة القانون ومؤسساتها الشرعية، مع خريطة طريق تضمن عدم العودة إلى مربع السلاح والاقتتال، ولعل الأوراق التي أعدتها بعثة الأمم المتحدة كانت وما تزال موضع بحث وتعديل من جميع الأطراف تشكل إطارا عاما لتلك الخريطة، وبداية ضياء للخروج من النفق المظلم. والمسؤولية الأولى والأخيرة تقع على الليبيين في نجاح أو فشل المفاوضات، ولعل أسباب النجاح الآن أكثر من أي وقت مضى إذا اتعظ الجميع بما وقع.
* سفير ليبيا لدى بريطانيا
TT
مفاوضات الصخيرات آمال وتحديات
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة