حنا صالح
كاتب لبناني
TT

لبنان أمام مخطط تحصين الناهبين!

في 21 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، اليوم الرابع على انطلاقة ثورة «17 تشرين»، ومع بدء امتناع المصارف عن الدفع، طالب نادي القضاة بتطبيق القانون 44 للعام 2015، الذي يتيح تجميد الحسابات في الداخل والخارج، وإخضاعها للتدقيق، والأمر متاح لارتباط هذا القانون بمكافحة التهريب وغسل الأموال. وحدد القضاة المطلوب تجميد حساباتهم بأنهم كل من تسلم مسؤولية رسمية على كل المستويات، يضاف إليهم المديرون العامون والقضاة وكبار الضباط، إلى كل من حوله شبهة إثراء غير مشروع.
جرى إهمال هذه المطالبة، فيما بدأت الفضائح تظهر وكرة الانهيارات تكبر؛ إفلاسات وانهيار قطاعات إنتاجية وبطالة. وبدأ تجار السياسة يتسابقون إلى الحديث عن ضرورة سن القوانين لاستعادة الأموال المنهوبة، وحماية حقوق المودعين في المصارف. ورفض الناس أن يصدقوا أن ودائع قيمتها أكثر من 120 مليار دولار وتعود إلى نحو مليون ونصف المليون شخص قد تبخرت وغير موجودة! وحتى اليوم، لا يصدق من تم السطو على جنى أعمارهم هذا الواقع، رغم ما تعرضوا له من إذلال على أبواب المصارف، واتساع المعاناة، وتبدل حياة مواطنين انتقلوا من الاستقرار المعيشي والبحبوحة إلى الفاقة، وباتت نسبة المعوزين الذين نهبوا وأفقروا إلى ما يزيد على 82 في المائة من السكان!
تفاقم الوضع مع الحكومة التي شكلها «حزب الله» وجيءَ بحسان دياب لرئاستها، وكانت مهمتها مزدوجة الامتناع عن أي تدبير لكبح الانهيارات وتغطية مخطط التهريب الذي نقل جزءاً من الثروة إلى الخارج. وفاقمت الجائحة الوضع المتردي، ووقعت بيروت ولبنان يوم 4 أغسطس (آب)، ضحية للتفجير الهيولي الذي دمر المرفأ ورمد ثلث العاصمة... وسرعان ما تبين أنهم في مواقع القرار، بدءاً من رئيس الجمهورية، كانوا يعلمون بوجود وسادة موت تحت رؤوس المواطنين، لكن أحداً منهم لم يتحمل مسؤولية حماية الأرواح والبلد!
رغم أن الثورة تمكنت من تصديع التسوية الرئاسية ولم تنجح في بلورة البديل السياسي، استمرت بأشكال مختلفة عصية على التطويع ويتسع انتشار الوعي الذي أدخلته، وتتعمق ظاهرة دخول الناس كلاعب سياسي رئيسي. وتباعاً، بعد جريمة تفجير المرفأ وبدء التحقيق العدلي، شهدت العدلية انتفاضة قضائية، أكدت أنه بالممارسة يمكن تحقيق استقلالية القضاء وإنهاء زمن الحصانات، وهي بين أبرز إفرازات قانون العفو عن جرائم الحرب، الذي كرس قانون الإفلات من العقاب. بالمقابل بدا البلد محكوماً بدوامة من الانهيارات المتلاحقة. أعداد كبيرة سارعت إلى الحصول على جوازات سفر، وأعداد الذين غادروا وقطعوا «وان واي تيكت» رأوا أن لبنان لم يعد المكان الصالح للعيش ولا بديل عن الرحيل بعيداً عنه، لأن الفرص انعدمت!
رغبة الابتعاد راودت كثيرين ممن يطلبون الدواء ويعجزون عن دفع ثمنه فيستغنون عنه قسراً ولو أن المرض عضال، أو ممن يطالعون الارتفاع الصاروخي في أسعار السلع فيغادرون السوبر ماركت مع ما خف حمله. والنتيجة الأخطر ما يمكن تلمسه من ارتفاع متتالٍ في معدل أعمار المتبقين، خصوصاً في الأرياف، التي هجرها الكثير من شبابها، وبقي الكهول، تمزقهم المرارة ينطرون الأبواب ولا يريدون لها أن تقفل ويأكلها الصدأ... وهم يدركون أن صفحة كبيرة طويت وحياة أخرى كانت واليوم انتهت!
هذا التردي نتيجة لمرور أكثر من عامين على «17 تشرين» والمنظومة المتحكمة، وبالأخص في البرلمان، تماطل حتى في وضع قانون «كابيتال كونترول»، تاركة الحبل على غاربه أمام الكارتل المصرفي السياسي يهرّب الأموال للنافذين، التي قدرتها «موديز» بـ9 مليارات و500 مليون دولار خلال هذه الفترة. ما أثبت أن «إهمال» النواب لم يكن عرضياً بل كان مخططاً له لحماية مصالح المنظومة السياسية وشركائها المصرفيين المرابين. واللافت هنا أن المصارف التي حجبت أموال المودعين، أمنوا لها حماية قضائية. لكن مع بدء الانتفاضة في العدلية بدأ يتبدل المشهد؛ انقلبت المواقف واستعجل البرلمان محاولة إقرار «كابيتال كونترول» فُصل على مقاس المصارف، بهدف حمايتها وتحصينها ضد الملاحقة، أي العفو عن الجرائم التي ارتكبت بحق المودعين.
في الأسبوع المنصرم أصدرت المحكمة قراراً بالحجز على 100 عقار يملكها مصرف «فرنسا بنك» لتسديد وديعة قيمتها 40 مليون دولار، وقبل ذلك قررت المحكمة أن إيفاء الوديعة بالشيك غير مقبول إذا لم يسدد المبلغ. وبالتوازي بدأت تتالى الأحكام والملاحقات في الخارج. فبعد حكم المحكمة الفرنسية في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) بإجبار مصرف «سرادار» على سداد وديعة تتجاوز 3 ملايين يورو، حددت المحاكم البريطانية يوم 21 الحالي للنطق بالحكم ضد مصرف «لبنان والمهجر» لتسديد وديعة قيمتها 4.1 مليون دولار، والمحاكمات أمام المحاكم الإنجليزية مستمرة ضد مصارف «سوسيتيه جنرال» و«عودة» والبنك اللبناني الفرنسي.
أصيبت المنظومة السياسية بالذعر، لكن هالة «17 تشرين» منعت النواب عن إقرار قانون يستبق الأحكام في الخارج والداخل تضمن بالحرف: «إن أحكام هذا القانون تطبق فوراً على الدعاوى والمنازعات في الداخل والخارج التي لم يصدر فيها حكم مبرم وغير قابل لأي طريق من طرق المراجعة»! سقطت المحاولة لكنهم سيحاولون مجدداً ولن يرتدعوا عن أي شذوذ يمنح صك براءة للجهات المسؤولة عن جريمة بحجم إفلاس لبنان وإفقار شعبه.
الانتفاضة القضائية اندلعت على خلفية التحقيق العدلي في جريمة تفجير المرفأ والأداء الشجاع لقاضٍ نزيه هو طارق البيطار، الذي قال بالممارسة إن الكلمة الفيصل للقضاء، لذلك لم يهب وعيد «حزب الله» بـ«قبعه»، ولا تكرار استهدافه من قبل حسن نصر الله وكل المنظومة السياسية والدينية، علاوة على نشاط الغرف السوداء التي تفبرك الدعاوى، بهدف إضاعة الوقت والتعطيل، وبقصد سحب الملف من المحقق العدلي لإبطال العدالة! وبلغ التدخل في الشأن القضائي الذروة، مع إطلاق نبيه بري حملة تحريض وصفت البيطار بـ«المتآمر» الذي «ينفذ الأوامر ويتلقى التعليمات التي ضربت مسار التحقيق في جريمة المرفأ»!
الاستهداف مفهوم، لأن استعادة العدلية وكسر استتباعها ضمانة للعدالة في جريمة المرفأ، وضمانة لاستعادة الحقوق والمنهوب وتقديم المرتكبين إلى العدالة... والحملة التي قام بها مغتربون لتسجيل أسمائهم للمشاركة في الانتخابات، تؤكد أن من هم في الخارج لن يكتفوا بتحويل الأموال للمساهمة ما أمكن بدرء المجاعة، بل ارتباطهم كبير بأهلهم وبلدهم، وهم كما القضاء رافعة داعمة للداخل في معركة استعادة الدولة المخطوفة بالسلاح، واستعادة الجمهورية التي تتسع لأحلام اللبنانيين وترفض اقتلاع البلد واستتباعه... وفي كل ذلك التأكيد على أهمية حماية المسار القضائي لبلوغ الحقيقة والعدالة وطي صفحة زمن الإفلات من العقاب!