جمال الكشكي
رئيس تحرير مجلة «الأهرام العربي». عضو مجلس إدارة مؤسسة الأهرام. عضو مجلس أمناء الحوار الوطني. عضو لجنة تحكيم جائزة الصحافة العربية. عمل مذيعاً وقدم برامج في عدة قنوات تليفزيونية.
TT

«كورونا»... ولحظة الدولة الوطنية

في أحد مطاعم حي الزمالك بالقاهرة، كانت الطفلة ذات الأعوام العشرة تقريباً، تجلس مع أسرتها، كان الحديث صاخباً حول «كورونا»، بينما باغتتهم هذه الطفلة بسؤال: «يا جماعة نفسي حد يقولي متى تنتهى كورونا؟».
صخب النقاش بدده سؤال الطفلة البريئة... السؤال استوقفني شخصياً، أدرت رأسي مبتسماً، لأختلس نظرة صامتة لهذه الطفلة، انتظرت لكي أسمع إجابة من أحد الجالسين معها حول الطاولة. سؤال سهل، لكن الإجابة في منتهى الصعوبة، واصلوا حديثهم بكلام مطلق حول كورونا. لم يتجاهلوا السؤال، الحقيقة أن السؤال كان كاشفاً، فلا أحد على وجه الكرة الأرضية، يعرف نهاية هذا الوباء. ربما يكون سؤال هذه الطفلة بحثاً عن أمل فى استعادة حريتها، فى ممارسة سلوك الطفولة الذي غيرته الجائحة، وحرمته من امتيازات المرحلة العمرية، حاصرني مزيد من القلق فحدثت نفسي... نعم، إنها أزمة كبري وشديدة التعقيد، فلو أنها كانت حرباً عسكرية لاستعد لها العالم، وخاضها حتى النهاية، لكنها، هذه المرة، حرب لا أحد يعرف متى ستنتهي، وما هو حجم خسائرها البشرية والاقتصادية، فواتيرها مفتوحة، قطعاً لا أحد يعرف كم ستكون تكلفتها، أتحدث عن حرب كورونا، التى تقف ليس فقط على جبهة، أو جبهتين، بل إنها تخترق كل حياتنا، العمل، الجامعات، المدارس، المطاعم، الفنادق، الأندية، وسائل المواصلات، وغيرها، أصبح متحور «أوميكرون» من فيروس «كورونا» حديث العالم الآن، وعادت أخباره مرة ثانية، لتصبح الحديث رقم واحد على موائد الأسر فى جميع أنحاء العالم، وتصدرت الصفحات الأولى لصحف العالم، والخبر الرئيسي في النشرات التليفزيونية.
«كورونا» حرب، يقودها جنرالات مخفيون، يتحدون البشرية ويطاردونها، يتحكمون في أنفاسها. إمبراطورية كوفيد تحكم العالم، وحدها صاحبة قرار إجلاء الرعايا، أو وقف خطوط الطيران، أو الإغلاق الكلي أو الجزئي للبلاد، ما إن لاح في الأفق أمل الخلاص من الضيف ثقيل الظل الذي حل علينا عام 2020، حتى طاردتنا ضيوف أثقل ظلاً، مثل متحور «دلتا» و«أميكرون». الرعب يواصل التسلل إلى البشرية، دول عظمى تهدد منافسيها بالعتاد والسلاح والقوة، والسباق على الجلوس في المقاعد الأولى لحكم العالم، بينما في هذه اللحظة تقف الدول العظمى نفسها عاجزة عن حسم مستقبلها أمام هؤلاء الضيوف الذين يدخلون دون استئذان.
وفى الحقيقة وسط طوفان الخسائر الذي يلاحق الاستقرار الاقتصادي، ويعمل على تقويض المحددات الأساسية لقواعد التجارة العالمية بين الدول، أجدني أتوقف أمام مفهوم وأهمية الدولة الوطنية، فالأزمة العالمية التي خلفها كورونا، وما تتطلبه من إجراءات وتداعيات باهظة التكاليف، تقول إن الدولة هي التي تستطيع وحدها تحمل مسؤولية إنقاذ شعبها، وتوفير جميع الأدوات اللازمة لمواجهة تحديات هذا الوباء الذي قطعاً سيقضم عصب الاستقرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
فالدول التي فقدت، عبر السنوات الماضية، مفهوم الوطنية والاستقرار تم استنزاف مواردها الشاملة، وباتت حائرة وعاجزة عن التكامل في هذا الخطر الذي اقتحم العالم فجأة.
الأزمات تكشف الجاهزين، «كورونا» واحدة من الأزمات التي رفعت الغطاء سريعاً عن الدول التي ظلت تتجول عبر التاريخ، بمفاهيم قوة النموذج السياسي المفتوح، من أجل الهيمنة والنفوذ والسيطرة وفرض «الكتالوج» الخاص بها، كنموذج يقاس عليه، ويجب نشره فى ربوع العالم.
لكن فى الحقيقة، سقطت مساحيق التجميل السياسي، ونجح «كورونا» في نزع ورقة التوت، لتكشف الأوزان الحقيقية للمفهوم العلمي لفكرة الدولة، تصارعت شركات القطاع الخاص، ودخل رجال الأعمال فى منافسات ومزايدات عالمية من أجل استثمار هذا الوباء، بينما ظلت مؤسسات الدول الطبيعية وحدها فى ساحة الحرب مع كورونا، تهاوت اقتصاديات دول عظمى، وتصدعت بنية المؤسسات الدولية عابرة الحدود، وتراكمت الديون العالمية، وانقطعت شرايين العالم عن ضخ حركتها المعتادة، وأصبحنا أمام نظام عالمي جديد بتوقيع كورونا، لا يعترف بالقطبية الثنائية التى عشناها بعد الحرب العالمية الثانية مع الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وأيضاً نظام عالمي لن يتوقف أمام مصطلحات من نوع «صدام الحضارات»، و«نهاية التاريخ»، بل إنه نظام عالمي له قواعده ومفاهيمه الخاصة، يصبح البقاء فيه لـ«الأوفى» إنسانياً وصحياً واقتصادياً، وليس البقاء فيه لـ«الأقوى» كما فى أدبيات السياسة التقليدية.
فمن يقرأ تقارير ودراسات مراكز التفكير العالمية حول «كورونا» منذ عام 2019، فسيتأكد له أن الشعوب أدركت ضرورة الانحياز لمن يقدم لها الخدمة، ويستطيع الحفاظ على حياتها، وسط الضربات المتلاحقة من هذه الجائحة، وبالتالي، فإننا أمام شواهد تؤكد الرغبة في العيش تحت سقف الدولة المؤسسية، بحثاً من الحماية والأمان والاستقرار، لا سيما أن تجربة «كورونا» ومتحوراتها أثبتت، بما لا يدع مجالاً للشك، أن وجود الدولة القوية هي الملاذ الوحيد الذي يحقق مسارات الحماية والنجاة، وتجاوز هذه المحنة على مختلف الأصعدة. فالدولة هي التي تقوم بإدارة الصحة والتعليم، وتوفير الموارد المعيشية، وحقوق المواطن، كما أن المواطن نفسه في هذه الأزمة لم يجد قنوات اتصال إلا مؤسسات الدولة بجميع أنواعها التشريعية والصحية والعلمية والتعليمية والإعلامية.
إذن، وسط مواجهة حرب كورونا، وفي خضم الانهيارات الاقتصادية السريعة، لم يعد هناك أحد بمنأى عن هذه الأخطار، وهنا لابد من التوقف أمام خلاصة مريرة لما يشهده العالم الآن من حصار وبائي، سبقه أيضاً وباء آخر بعنوان ما يسمى «الربيع العربي»، فجاءت المرحلة بعنوان «الخسائر مفتوحة».