نجيب صعب
الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»
TT

ألمانيا الخضراء ينتخبها الشباب

«التحول إلى الاقتصاد الأخضر» هو العنوان العريض للائتلاف الحكومي الجديد في ألمانيا، الذي أفصح عن برنامجه للحكم بعد شهرين من المفاوضات. وجاء الإعلان عن البرنامج، بعد أيام من انتهاء قمة غلاسكو المناخية، بمثابة تجسيد عملي لمقرراتها. ومن الطبيعي أن تكون لهذا الالتزام ارتدادات عالمية، حين يأتي من الدولة التي تقود أوروبا اقتصادياً.
الاتفاق يعكس التأثير المتعاظم لحزب الخضر وجيل الشباب في السياسة الألمانية، لكنه يُظهر في الوقت نفسه تحولاً جذرياً في النبض الشعبي، ينسحب على جميع الأحزاب الكبرى. فالبرنامج البيئي - المناخي للائتلاف الجديد هو في جوهره امتداد لسياسات حزب أنجيلا ميركل، الذي قاد ألمانيا لفترة 16 سنة، قبل أن يفقد الأكثرية في الانتخابات الأخيرة عقب اعتزال ميركل العمل الحكومي.
وفي حين تخوف كثيرون من التراجع عن الالتزامات البيئية والمناخية التي ميزت عهد ميركل، عزز التحالف الجديد هذه الالتزامات، بتفويض شعبي صريح. والواضح أنه مع تراجع شعبية الأحزاب المتطرفة، يميناً ويساراً، ترسخت قيم الاعتدال والحداثة في خيارات ألمانيا السياسية والاقتصادية، مع العمل على إقامة توازن دقيق بين متطلبات التنمية وقيود رعاية البيئة. فبعد فوزه بالعدد الأكبر من المقاعد، توصل الحزب الديمقراطي الاشتراكي إلى اتفاق على تحالف يضمه مع حزب الخضر، الذي يضع البيئة في طليعة برنامجه، وحزب الديمقراطيين الأحرار، الذي يعطي الأولوية للنمو الاقتصادي. ويشكل الديمقراطيون الاشتراكيون القاسم المشترك الذي يمنح التوازن للائتلاف.
في البرنامج الحكومي الألماني مؤشرات مهمة، على الدول الأخرى، في أوروبا وخارجها، التنبه إليها، لِما لها من انعكاسات على السياسات الوطنية والدولية. فوصف البرنامج الحكومي بـ«التحول إلى الاقتصاد الأخضر» لم يأتِ عبثاً، بل جاء بناءً على خطط تحكمها أرقام ومواعيد زمنية. وحين يأتي هذا من بلد مثل ألمانيا، على العالم أن يستمع جيداً.
تعهدت الحكومة الألمانية بتحقيق «الحياد المناخي» سنة 2045، أي الوصول إلى صفر من الانبعاثات الكربونية قبل 5 سنوات من الموعد الذي حددته المقررات الدولية. ولتنفيذ تعهدها، التزمت الحكومة بحزمة من الإجراءات العملية، منها وقف استعمال الفحم الحجري كلياً سنة 2030، أي قبل الموعد المحدد سابقاً بـ8 سنوات. كما التزمت بإنتاج 80 في المائة من الكهرباء من مصادر متجددة بحلول سنة 2030، ولهذا سيتم تخصيص 2 في المائة من مجمل مساحة الأراضي الألمانية لمزارع الرياح، وسيفرض القانون تركيب لاقطات شمسية على سطوح جميع الأبنية العامة والخاصة، أكانت حكومية أم سكنية أم تجارية أم صناعية، كشرط لمنح الترخيص بالبناء. وتشمل الخطة تدابير لترشيد الأنماط الاستهلاكية، والحد من هدر المواد الأولية، وإعادة الاستعمال والتدوير، سعياً للوصول إلى «صفر نفايات»، أي اعتماد الاقتصاد الدائري. كما تضمنت الخطة برامج طموحة لحماية المواقع الطبيعية وتنميتها.
وقد وضعت الخطة هدفاً محدداً للوصول إلى 15 مليون سيارة كهربائية على الطرق الألمانية بحلول سنة 2030، تماشياً مع قرار الاتحاد الأوروبي بوقف تصنيع السيارات العاملة بالوقود وبيعها قبل سنة 2035، لا بد أن هذا التعهد سيرسل إشارات قوية إلى مصنعي السيارات ومستخدميها في أوروبا والعالم أجمع، لأنه يأتي من بلد رائد في تكنولوجيا السيارات وتصنيعها. هذا يعني أن شركات السيارات وواضعي السياسات في الدول الأخرى سيأخذون الأمر على محمل الجد، ويُقرون أن محركات الاحتراق الداخلي ستصبح في المدى المنظور جزءاً من الماضي. ومن المتوقع أن تنخفض أسعار السيارات الكهربائية إلى أقل من النصف مع دخول الشركات الألمانية في المنافسة الفعلية.
وللتأكيد على جدية الطرح الألماني، خصصت الحكومة الجديدة ميزانيات ضخمة لإنتاج الهيدروجين من الماء لاستخدامه كبديل للغاز في التدفئة، كما لتوليد الكهرباء وتشغيل وسائل النقل. ولحظت الخطة إنتاج الهيدروجين باستخدام الشمس والرياح، فيكون مخزناً وناقلاً للطاقة في الوقت نفسه. ويصلح الهيدروجين للاستعمال كوقود للسيارات، يمكن تعبئته بيُسْر وسرعة من مضخات معدلة في محطات الوقود. ومن المؤشرات على توجه أوروبا إلى الهيدروجين هو المشروعُ التجريبي الذي تنفذه جامعة «دلفت» الهولندية بنجاح منذ سنتين، لضخ الهيدروجين في الشبكات نفسها المستخدمة لتوزيع الغاز الطبيعي إلى المنازل. وقد أعلنت شركات مصنعة لأجهزة التدفئة المركزية العاملة على الغاز عن نجاحها في تطوير أساليب بسيطة لتعديل حراقات الغاز القديمة، بحيث تصبح صالحة للتشغيل بالهيدروجين.
نحن، إذن، أمام خطة ذات أهداف محددة، وبرنامج تنفيذي لتحقيقها، بما سيتحول إلى نموذج للدول القادرة في مرحلة ما بعد غلاسكو. أما الدول النامية، فعليها الاستعداد للانخراط في عصر جديد، بتطوير قدراتها الذاتية واعتماد مبادئ الحكم السليم من جهة، مع السعي لاستقطاب المزيد من الاستثمارات والمساعدات الخارجية من جهة أخرى.
وفي حين كان بعضهم ينتظر أن يُعيد الائتلاف الحكومي الجديد النظر في قرار وقف إنشاء محطات نووية جديدة وإغلاق الموجودة منها عند انتهاء عمرها التشغيلي، فقد كان القرار واضحاً باختيار الطاقة المتجددة والهيدروجين والكفاءة كطريق لتحقيق هدف «صفر انبعاثات» في ألمانيا. في المقابل، وجدت بعض الدول، مثل فرنسا، أن الطاقة النووية لإنتاج الكهرباء هي الخيار الأسرع لتحقيق خفض سريع في الانبعاثات الكربونية، وفق إمكاناتها وأولوياتها الوطنية.
هل تستطيع الحكومة الائتلافية الألمانية ضمان استمرار الدعم لسياساتها البيئية والمناخية؟ إنها بلا شك تفهم التحدي، وتدرك أن الاستثمار في المستقبل وحده لا يُجدي، إذا تجاهل واضعو السياسات الاستثمار في حاضر الناس. لذا، على الحكومة المحافظة على توازن دقيق، لن يكون تأمينه سهلاً مع استمرار التحديات التي تفرضها جائحة «كورونا» على الاقتصاد وحياة البشر.
قد يكون الائتلاف تنبه إلى هذا الأمر، فضمن برنامجه تخفيض سن الاقتراع إلى 16 سنة، بناءً على إصرار حزب الخضر. هكذا تصبح ألمانيا بين عدد قليل من الدول في العالم التي تمنح حق الانتخاب للشباب في هذه السن المبكرة. فهل تكون تلك المجموعة من الناخبين الشباب، وهم الأكثر اهتماماً بحماية البيئة والأكثر قلقاً من مخاطر تغير المناخ، حامية لدعم السياسات الجديدة وترسيخها؟

* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»