الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

عن الهوية اللبنانية لـ«حزب الله»

الجواب الذي تسمعه في لبنان عندما يتطرق الحديث إلى ضرورة مواجهة الدولة للدور المتمادي الذي يلعبه «حزب الله» في الداخل وفي المنطقة، والذي بات ضرره واضحاً على الاستقرار الداخلي وعلى العلاقات الطبيعية بين لبنان وجيرانه ومع سائر دول العالم: هذا حزب لبناني، عناصره لبنانيون، وهو ممثَل في الحكومة وفي المجلس النيابي، فماذا تريدون أن نفعل به؟
لا يأتي هذا الجواب على ألسنة حلفاء «حزب الله» فقط. كثيرون من خصومه يتبنون هذا الموقف أيضاً، مع أنهم يعرفون طبيعة الحزب وحقيقة هويته وأولويات مصالحه، لكنهم في مراحل مختلفة تملّقوا قيادته وسايروهم لأسباب مصلحية أو انتخابية. ثم ذاقوا على مر السنوات قسوة سياساته واختبروا دوره السلبي في شل البلد وإسقاط الحكومات، من خلال قواعد سنّها بنفسه وفرضها على الجميع، ومنها «الثلث المعطل» الذي صار يستخدمه لضمان هيمنة مصالحه على مصالح الدولة، وفي مواجهة الأكثرية، سواء داخل الحكومة أو في مجلس النواب. وآخر ما لجأ إليه «حزب الله»، تطبيقاً لهذه السياسة، هو ما يفعله اليوم في وجه المحقق في انفجار مرفأ بيروت، من منع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي من عقد أي جلسة حكومية، قبل «قبع» القاضي طارق البيطار؛ تنفيذاً لما هدد به أحد المسؤولين الأمنيين في الحزب خلال زيارته «التاريخية» لقصر العدل في بيروت.
الحديث عن هوية «حزب الله» كحزب لبناني، كما يتم عادة التعريف بالأحزاب، عندما يقال: هذا حزب بريطاني أو فرنسي أو تركي أو هندي أو حتى إيراني، هذا الحديث يحتاج إلى بعض التفكير وكثير من الشجاعة، لنتفحص مدى انطباق الوصف على واقع حال «حزب الله»، وعلى السياسات التي يتبناها في لبنان، الذي يُفترض أنه «بلده».
نبدأ من مسألة قانونية تتعلق بحق «حزب الله» في ممارسة العمل السياسي في لبنان. نعلم أن إنشاء أي حزب أو حتى جمعية في لبنان يحتاج إلى ترخيص من وزارة الداخلية. هل لدى «حزب الله» مثل هذا الترخيص؟ بل هل فكّر أساساً أو وجد مبرراً لطلب الحصول على مثل هذا الترخيص، وهو الذي يرى أنه فوق كل تشريع؟ يمنح صكوك البراءة وشهادات «أشرف الناس» لمن يتمتعون بحظوته، ويطلق الاتهامات بالعمالة والتخوين بحق المغضوب عليهم ممن يرفعون الصوت في وجه سياساته، مع ما يتبع ذلك من تهديد لمصالحهم، وفي حالات معروفة لحياتهم أيضاً.
المسألة الثانية تتعلق بالانتماء العقائدي لـ«حزب الله» وبمصادر تمويله. هنا يجب أن نعترف أن الحزب كان صادقاً في الإعلان عن الأمرين. التزام «حزب الله» بـ«ولاية الفقيه» المستوردة من نظام الحكم في إيران لا يخفيه الحزب، بل يفاخر به. أما مسألة التمويل، فقد أعلن الأمين العام للحزب في مناسبات مختلفة أن «أموال حزبه وثياب مقاتليه وأكلهم وشربهم وكل ما ينفقه على مشاريعه» يأتي من إيران. هل يمكن أن نتصور حزباً في أي بلد في العالم يعلن صراحة انتماءه إلى بلد خارجي بمثل هذا الوضوح، وتُترك له حرية العمل السياسي في البلد الذي يمارس نشاطه فيه؟
المسألة الأخرى التي لا تقل أهمية هي تناقض مصالح «حزب الله» في الداخل وفي علاقات لبنان الخارجية مع مصالح الدولة اللبنانية. الطبيعي أن يعمل أي حزب على خدمة مصالح بلده ومواطنيه وألا يقْدِم على أي عمل يمكن أن يهدد استقرار بلده وأمنه. هذه مسألة قانونية تحكم عمل الأحزاب. وعندما يخرقها أي حزب يصبح معرّضاً للمساءلة ولمنعه من ممارسة عمله الحزبي.
في وضع «حزب الله»، لا تحصى الحالات التي أقدم فيها على إلحاق الضرر بمصالح لبنان وأمنه وبمصالح اللبنانيين، وآخرها الأزمة الحالية مع دول الخليج. نتذكر حرب يوليو (تموز) 2006 مع إسرائيل التي افتعلها الحزب بعد خطف جنديين إسرائيليين. وردّت إسرائيل بهجوم كاسح على لبنان ألحق خسائر بشرية ودماراً كبيراً باقتصاده ومعظم بنيته التحتية، وانتهى الأمر بالأمين العام لـ«حزب الله» ليعلن أنه لو كان يعرف النتائج المدمرة لتلك الحرب لما أقدم عليها. ورغم هذا الاعتراف لم تحصل أي محاسبة للحزب بعد الأضرار التي ألحقتها الحرب بلبنان. وكل ذلك بحجة أنه حزب «مقاوم»، في حين الواقع أنه بعد انسحاب إسرائيل عام 2000، لم يبقَ مبرر للمواجهة المسلحة، خصوصاً أن مسألة مزارع شبعا، المستخدمة كـ«مسمار جحا» للتذرع بها، هي قضية عالقة بين لبنان وسوريا، وليس مع إسرائيل، وتحتاج إلى اعتراف من دمشق بأنها أرض لبنانية، كما أكدت الأمم المتحدة للسلطات اللبنانية في مناسبات متعددة.
لا يكفي أن يحمل أعضاء أي حزب هوية بلدهم للسماح له بحرية العمل السياسي في هذا البلد. نعرف أن أحزاباً كثيرة في العالم يحظر عملها أو الانتماء إليها رغم أن أعضاءها يكونون من المواطنين. المثال الأبرز هو الحزب النازي الذي يحظر أي نشاط له في ألمانيا، مع أن هناك مناصرين للعقيدة النازية وللفكر الفاشي في ذلك البلد كما في غيره. والأمر ذاته ينطبق على بلدان كثيرة تحظر أي نشاط حزبي يضر بمصالح البلد أو يظهر أن القائمين به يرتبطون بمشاريع خارجية، حتى لو كانت مع دول حليفة.
وفي إيران نفسها، الراعية الحصرية لـ«حزب الله»، تحظر السلطات أي نشاط سياسي يعارض نظام «ولاية الفقيه» أو يدعو إلى عودة نظام الشاه. والمعارضون للنظام الإيراني الحالي هم إما في القبور أو في السجون، أو لجأوا إلى المهاجر البعيدة.
لكننا نتحدث عن لبنان، ولست ساذجاً إلى درجة الاعتقاد أن فتح ملف «حزب الله» ومناقشة ولاءاته مسألة ممكنة. لقد بلغت سطوة الحزب على القرارات السياسية درجة يستحيل معها رفع أي صوت يدعو للنقاش أو للمعارضة. والأزمات التي يواجهها لبنان اليوم هي بين النتائج المباشرة لهذه السطوة.