فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

لاءات سودانية محسومة... وتحذيرات أممية ودودة

يكاد المواطن السوداني من أقاصي غرب الوطن وشرقه وشماله ووسطه وبعض جنوبه لا يصدِّق ما يرى؛ كيف أن السودان الدولة التي أرهق كاهل شعبها عدم استقرار العهود التي توالت عليه، العسكري منها والمدني، إلى أن حدثت صيغة التشارك التي ما لبثت أن اهتزت، بات فجأة قضية أممية وموضع انشغال بال الدول الخمس الكبرى المتحكمة بالمصائر السياسية إلى حدٍّ في دول القارات الخمس، وبالذات بال الدولة القائدة الولايات المتحدة.
من خلال التأمل في ردود الفعل على موجات التغيير التي حدثت في سودان الشراكة المدنية – العسكرية، نلاحظ أن الإدارة الأميركية تعاني آثار المباغتة من جانب الطيف العسكري الذي أحدث فجأة ما يشبه الارتداد عما هو متفق عليه. وهذه الحدة المتدرجة في التعبير عن انزعاجها تعود إلى أن جيفري فيلتمان المسؤول الأميركي الذي أدار غرفة عمليات التوفيق بين المكوِّن العسكري والمكوِّن الثوري المدني وبينهما رئيس الحكومة الذي قلْبُه ومصلحته مع المكوِّن الأول وعاطفته وتطلعاته مع المكوِّن الثاني، غادر الخرطوم إلى أديس أبابا وهو سعيد بأنه طمأن مرجعه وزير الخارجية إلى أن الأمور نحو تهدئة وأن الطرفيْن إلى توافق، بوغت بأن تقديره لم يكن في محله وعلى هذا الأساس عززت الإدارة رؤية جديدة للوضع تقوم على معارضة التوجه العسكري علناً وتأييد بقائه طي الكتمان، وتأييد الحراك الشعبي الذي هو ديمقراطي المنحى بالصوت الأعلى إنما تعارضه ضمناً. وهذا له تفسيره؛ ذلك أن الطيف العسكري هو من حقق تطبيعاً وإن لم يكتمل فصولاً مع إسرائيل وتخشى الإدارة الأميركية ضمناً في حال اصطفّت إلى جانب الطيف المدني أن تتسبب التناقضات داخل هذا الطيف في محو السطور القليلة من صفحة التطبيع التي لم تكتمل طباعة.
ومن هنا يمكن الاستنتاج أن الذي تريده الإدارة الأميركية من التهويلات الكثيرة النعومة من مغبة اندثار الحراك المدني، وتشاركها في التهويل دول حليفة وصديقة ذات تأثير من بينها بريطانيا وفرنسا ودول إقليمية هي معظم الدول الأفريقية، هو أن يستعيد التشارك تماسكه وأن تكون هنالك صيغة معدلة غير الحالية بمعنى ألا يبقى المدنيون على إصرارهم على تسليم الطيف العسكري المناصب التي يشغلها الفريق عبد الفتاح البرهان ونائبه الفريق محمد دقلو (حميدتي) وسائر الجنرالات للمدنيين على نحو ما هو مثبَّت في الوثيقة الدستورية. وبذلك تطمئن النفس الأميركية واستطراداً نفوس الدول الصديقة والحليفة ومعها الأطياف التطبيعية المستجدة، وبطبيعة الحال إسرائيل المستغرقة في حُلم التطبيع المتكامل. اطمئنان على أساس أن الأمور مستتبّة في السودان الذي أنجز خطوة على طريق التطبيع لكنها خطوة من النوع القابل للتراجع بمثل ما هي محفِّزة للإقدام خطوات.
مثل هذا الافتراض يستوجب التذكير بتنوع مفردات التعبير الاحتجاجي ظاهراً الودي ضمناً مثل القول التغريدي لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن: «إن الولايات المتحدة معجبة بملايين السودانيين الشجعان الذين تظاهروا»، وقول فيلتمان المصدوم مما فعله الفريق البرهان المتمثل بإقالة الحكومة تمهيداً لتأليف حكومة جديدة: «إنه ليس من السهل إعادة السودان إلى ماضيه المظلم»، وقول الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش: «على قادة الجيش أن ينتبهوا لاحتجاجات الشعب، وحان الوقت للعودة إلى الترتيبات الدستورية»، وقول سفير بريطانيا: «إننا نقف جنباً إلى جنب مع الشعب السوداني الجريء الذي تظاهر بالملايين في شوارع البلاد دفاعاً عن الديمقراطية والحقوق الأساسية». وبعدما حسم البرهان الأمر بإعلان مجلس سيادي جديد برئاسته وأدى الأعضاء، عسكريين ومدنيين جُدداً، اليمين أمامه، علا قليلاً صوت الدول الثلاث المعنية بالشأن السوداني المتسارع المفاجآت (أميركا وبريطانيا والنرويج) في بيان، ومعها دول الاتحاد الأوروبي وسويسرا في بيان مشترَك وزّعته الخارجية الأميركية يعبِّر عن صدمتها مما فعل البرهان. وهذه المرة إضافةً المطالبة بإطلاق جميع المسؤولين المحتجَزين وأبرزهم رئيس الوزراء عبد الله حمدوك المستضاف في فيلا في حي كافوري الراقي، كما استضافة الرئيس البشير ماضياً لرفيق نظامه وملهمه الإسلاموي الدكتور حسن الترابي.
مع أن الاتحاد الأفريقي دخل متأخراً حلبة المعاندة بغرض جمْع الشتيتيْن اللذين يمعنان معاندةً في الموقف من دون وجه حق، إلا أن النصح التحذيري الدولي، الأميركي بالذات، دخل ونحن نكتب ما نكتبه هنا يوم الاثنين 15 نوفمبر (تشرين الثاني) 2021 يومه الأسبوع الثالث من دون أن تتوقف إدارة الرئيس بايدن عن تنبيه وتحذير وبكل المفردات اللطيفة، الطرفيْن اللذيْن هما حتى إشعار آخر بالمرتبة المتساوية من التقييم لهما. فالطيف المدني لم يطرح في المظاهرات بما في ذلك مسيرة «الزلزال» أكثف مظاهرات الاحتجاج، إلغاء خطوة التطبيع التي تمت، وهذا يريح إدارة بايدن. والطيف العسكري عند كلمته التي أبلغها خلال لقائه نتنياهو في عنتيبي يوم 3 فبراير (شباط) 2020، ومن جانبه فإن الطيف العسكري يرى في ضوء الأشهر الكثيرة التعقيد التي أعقبت وضع الوثيقة الدستورية، أنه لا بد من أجْل الاستقرار أن تكون الشراكة أكثر رحابة في الصف المدني السياسي بحيث يصار إلى تضييق هامش الاجتثاث (تفكيك التمكين بالقاموس السوداني طبعة 2020) للعهد البشيري ويصار أيضاً إلى طمأنة أعداد كبيرة من الضباط في المؤسسات الأمنية من الذين خدموا في سنوات حكم البشير، وذلك كي لا ينتهي الأمر في السودان على نحو ما بات عليه في العراق على يدي بريمر السيئ التصرف.
في نهاية المطاف لا استقرار في السودان إذا كان سيتم التفريط في الصيغة التشاركية. ولا تفعيل للمساعدات ولإلغاء الديون التي أثقلت الكواهل كاهلاً بعد كاهل على مدى نصف قرن. لا العسكريين عندما حكموا وحيدين أفادوا، ولا المدنيين أُولي الأحزاب عندما قُيِّض لهم أن يحكموا أداروا شؤون البلاد والعباد بالتي هي أفضل. ولا هنالك في الأفق ولا في المدى المنظور سوار الذهب آخر يفعل ما فعله المشير عبد الرحمن الذي قرأ المشهد بكثير من التبصر ورأى قطعاً لما يمكن أن يفعله الحراك الحزبي قبل ثلاثة عقود والتزاماً أميناً بكلمة شرف بالنسبة إلى صيغة الفترة الانتقالية، أن ينصرف بمهابة القائد ومن دون أن تخدش كبرياءه مفردات ثورية كتلك التي رُمي بها بعض جنرالات السودان من الذين انتقلوا من الثكنات إلى السرايات من بني قومهم الحزبيين والمتحزبين. ولقد فعل ثم بعد العلاج الكريم من المرض في الرياض، أسلم الروح هانئاً ورقد وبتكريم من الملك سلمان بن عبد العزيز في رحاب تربة المدينة المنورة.
وبالعودة إلى كثافة التحذيرات الناعمة من جانب دول العالم الثالث التي تستهدف ترويض الوضع في انتظار حسْمه، يبقى السوداني على دهشته من أنه بين ليلة ثورة شعبية وضُحى انخراط جنرالات فيها، الأمر الذي حقق بعض المبتغى، بات يرى أن هذا البلد الأشبه بقارة، انتقل من هامش عدم اكتراث العالم به إلى أنه بات الملف الأهم، أو فلنقل واحداً من الملفات المهمة على الطاولة الأممية من واشنطن إلى بكين مروراً بلندن وباريس وموسكو وسائر الدول المحلقة في فضاء الخمس الكبار.
... ويا ليت بعض هذا الاهتمام تحظى به القضية المرجأة منذ عقود.. قضية حسم موضوع الدولتيْن على أساس رؤية المبادرة العربية لهذا الحسم (دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشريف إلى جانب دولة إسرائيل) وعندها يصبح التطبيع أمراً واقعاً وليس وزراً، وبذلك يذهب غيظ القلوب ويتوب الله على من يشاء. والله الغفَّار.