د. ياسر عبد العزيز
TT

صناعة التطرّف في العصر الرقمي

كان الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون من أوائل المسؤولين الأمميين الذين دقوا ناقوس الخطر، وحذروا بشدة من تزايد قابلية شبكة «الإنترنت» لدعم الإرهاب؛ حين قال في عام 2013: «إن شبكة الإنترنت هي خير مثال يوضح كيف يمكن للإرهابيين أن يمارسوا نشاطهم على نحو عابر للحدود».
ستكون شبكة «الإنترنت» في موقع فريد ومتقدم ضمن أي تقييم منصف للإنجازات البشرية على مر التاريخ، بما منحته لعالمنا من قدرات، ووفرته من موارد، وأنجزته من اختراقات. ولكن رغم ذلك، فإن جانباً مشيناً ظهر في أدائها معززاً مخاطر كبيرة وفارضاً تحديات جمة لا يبدو أن هناك مفراً من التجاوب معها.
وعلى مدى العقد الماضي تحديداً تدافعت الإنجازات الضخمة للشبكة، بحيث هيمنت على معظم جوانب العمل الإنساني. وبموازاة ذلك ظهرت المخاطر الكبيرة المتجسدة في قابليتها الواسعة والمتجددة لتسهيل عمل المتطرفين، وتجنيدهم، وتطوير أدائهم الإرهابي.
ورغم ظهور عدد كبير من البحوث والتقييمات السياسية والعلمية الواضحة في كشفها هذا العوار الخطير، فإن العالم لم يتخذ بعدُ الخطوات الواجبة للحد من تلك القابلية، بل إن الحوادث الإرهابية المرتبطة بـ«الإنترنت» تتزايد، وتتطور باطراد.
وعلى سبيل المثال، فنحن نذكر أن مذبحة أورلاندو التي وقعت في يونيو (حزيران) 2016، حين قتل شاب أميركي من أصل أفغاني، يدعى عمر متين، 50 شخصاً في نادٍ للمثليين، كانت مرتبطة بـ«الإنترنت» بشكل مباشر، إذ أثبتت التحقيقات أن مرتكب المذبحة كان حريصاً على تصفح تحديثاته باستمرار على حسابه في «فيسبوك» وقت ارتكاب الجريمة.
وفي عام 2019، ارتكب برينتون تارانت واحدة من أبشع الجرائم الإرهابية التي شهدها العالم، عندما قتل 51 شخصاً في مسجدين بنيوزيلندا بسبب مواقفه العنصرية تجاه المهاجرين والأقليات والمسلمين تحديداً.
لكن تارانت أعطى لجريمته بُعداً آخر، سيوفر أسباباً لاحقاً للتعامل معها بوصفها حدثاً مفصلياً في صدد علاقة الشبكة بالإرهاب. إذ بث هذا الشاب اليميني المتعصب جريمته بثاً حياً على «فيسبوك» لمدة 17 دقيقة، بحيث أمكن لمستخدمي هذا الموقع حول العالم أجمع متابعة تفاصيل جريمته على الهواء مباشرة. وإضافة إلى ذلك، فقد بينت التحقيقات أنه طور فكره العنصري والإرهابي عبر مواقع مفتوحة وأخرى مغلقة على «الشبكة».
وسيتكرر الأمر لاحقاً عند تقصي السلطات واقعة قتل المدرس الفرنسي صامويل باتي في 2019 على يد أحد المتطرفين، إذ سيظهر أن «الإنترنت» كانت عاملاً جوهرياً من عوامل التحريض على تلك الجريمة.
وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، نشرت جامعة نوتنغهام ترنت البريطانية نتائج دراسة مهمة أكدت أن شبكة «الإنترنت» تؤدي دوراً بارزاً في تعميق التطرف، وكشفت عن «زيادة خاصة في استخدام منصات التواصل المفتوحة في تعزيز أنشطة التطرف والإرهاب».
تنتمي هذه الدراسة إلى نوعية مميزة من الدراسات التي تعتمد على فحص مسارات صناعة التطرف والإرهاب من خلال تقصي حالات المدانين والمحكومين، وتحليل أنشطتهم على الشبكة عبر الولوج إلى حواسيبهم الخاصة. وتتفق نتائج تلك الدراسة مع نتائج بحث مشابه بعنوان «الراديكالية في العصر الرقمي» أجرته مؤسسة «راند أوروبا»، قبل ثماني سنوات، على عينة من المدانين بالإرهاب، حيث خلصت إلى أن «الإنترنت» تعد مصدراً رئيسياً للاتصالات والمعلومات والدعاية للمعتقدات المتطرفة، وأنها تؤدي دوراً مهماً في تسهيل التطرف، وتعزيزه، وتسريعه.
وفي العام 2013، كرست مجموعة من الباحثين التابعين للمركز الدولي لدراسات الحركات الراديكالية (ICSR) نفسها لمتابعة نشاط نحو 190 من المقاتلين الأجانب في صفوف «داعش»، وتوصلت إلى أن شبكات «التواصل الاجتماعي» تمثل «مصدراً أساسياً للتجنيد والإلهام والمعلومات» لهؤلاء الإرهابيين.
ورغم توافر كل تلك النتائج الواضحة وما تكشفه من مخاطر، فإن المجتمع الدولي أخفق في تطوير آليات ناجعة للتعامل مع ذلك التحدي.
ستشهد السنوات القليلة المقبلة اختباراً صعبا للحكومات والمنظمات الدولية والقائمين على شبكة «الإنترنت» ومستخدميها، فإما أن تنجح الجهود الرامية إلى تطوير آليات مُحكمة للحد من قابلية الشبكة لدعم التطرف، وإما أن تتفاقم الممارسات الحادة والمنحرفة عبرها، ويتطور أداؤها كوسيلة للتخريب وتقويض أركان المجتمعات، والعبث بمقدرات الأفراد والدول.
ولأن طاقة «الإنترنت» عابرة للحدود، فإن المجتمع الدولي يجب أن ينسق آليات حماية تعمل على نحو عابر للحدود أيضاً لمواجهة تلك المخاطر.
وسيكون إرساء قواعد لحوكمة عمل الشبكة، وتشخيص الممارسات المرتبطة بالتطرف عبرها، وتجريمها، وحظرها، من دون الجور على حرية التعبير، أفضل ما يمكن فعله في هذا الصدد.