حنا صالح
كاتب لبناني
TT

في أبعاد وخلفيات استكبار «حزب الله» واستعلائه!

حالة من الاستعلاء والتعسف الحاد تربط كل ممارسات «حزب الله» حيال التحقيق العدلي في جريمة تفجير المرفأ والعاصمة، وصولاً إلى «الخميس الأسود» يوم 14 الجاري وما رافقه ونجم عنه من تداعيات. يبدأ الطرح على الدوام أن ما يقدم للناس ليس تحليلاً، بل معلومات نهائية، وعليها يتم رسم الصورة للاتهامات الآتية. ينطلقون بشأن التحقيق العدلي في جريمة الحرب ضد لبنان، من خلفية تفترض العلم بخفايا التحقيق السري ومساراته، ومن موقع الفقه الدستوري والمرجعية القضائية، فتُلصق التهم بالمحقق العدلي بعد إطلاق النعوت ضده. والأنكى أنه في سياق التحريض والاتهام، تبدو هذه الجهة مطمئنة أن «عدالتها الثورية» ماشية وأن الناس تنتظر منها الكلمة وحسب، وليس الأدلة والبراهين!
مباشرة بعد الاشتباه القضائي في دور لـ«نظام 4 آب»، في جريمة تفجير المرفأ، وإبلاغ قاضي التحقيق في حينه، فادي صوان، إلى مجلس النواب «الاشتباه» في مسؤولية ما على نحو 20 شخصية سياسية كانوا في موقع القرار منذ عام 2014، وهم رؤساء الحكومات ووزراء الأشغال والمال والعدل، حتى انطلقت حملة التشكيك في مهنية القاضي وأهليته، وألصقت به تهم الارتياب والتنكر للدستور، لأنه اعتبر أن الحصانات تسقط أمام حصانة الدم الذي هُدِرَ غدراً، فانقضت عليه منظومة الحصانات المحمية من «حزب الله» وفرضت إبعاده، ليسود الاعتقاد أن بديله تعلم الدرس ولن يحيد عن الخطوط الحمر المرسومة.
عندما بينت الوقائع للمحقق البيطار، أن من بين المشتبه فيهم ساسة تبلغوا تقارير خطية تحذر من خطر تدمير بيروت، ولم يحركوا ساكناً، وتأكد له أن قيادات عسكرية وأمنية كانت على علم بوجود وسادة موت تحت رأس العاصمة، ولم يتحملوا المسؤولية، ادعى عليهم جميعاً بجناية «القصد الاحتمالي» بالقتل، وجنحة الإهمال. أحدث ذلك هزة لم يعرف لها لبنان مثيلاً، وما زالت تتوالى تداعياتها لأنه هال الطبقة السياسية التي يقودها «حزب الله» أن سياسة استتباع القضاء لم تنجح في فرض التغيير الكامل على مسار العدلية، فانقضوا بكل أسلحة التجريح والتخوين، على شخص المحقق العدلي الذي بات يمثل ما ينبغي أن تكون عليه هيبة الدولة والشرعية. انتفضوا لشعورهم بالخطر على استمرارية سياسة الإفلات من الحساب والعقاب، المحمية بالحصانات، والمحاكم الخاصة، التي ما وجدت إلا لتبرئة كبار المرتكبين. والحقيقة، أصيب المواطن العادي بالذهول لأنها المرة الأولى التي يوجه فيها القضاء الاتهام لمسؤولين رسخوا بأذهان الناس أنهم فوق القانون!
تصدر «حزب الله» الحملة المناوئة للحقيقة والعدالة، ووجه شتى التهم ضد قاضي التحقيق العدلي، بالزعم أنه «يشتغل سياسة» و«استنسابي» وصولاً إلى التهديد العلني بـ«قبعه». ولما أصر البيطار على منهجيته وبدأت مذكرات التوقيف، أعلن حسن نصر الله: «الوقت انتهى شوفوا شو بدكم تعملوا لأن الاستمرار على هذه الحال لا يخدم البلد ولا استقراره»! وطالب مجلس القضاء الأعلى «علاج» الموضوع، أو ليتحمل مجلس الوزراء مسؤولية إبعاده وإلا! والحقيقة من المستحيل الركون إلى فكرة أن «الوفاء» في مكانٍ ما، للمنظومة السياسية، هو ما يحرك «حزب الله»، مع أنه لتاريخه ما من متهم من الحزب. وما يؤكد أن «وراء الأكمة ما وراءها»، فكان الحدث يوم 12 أكتوبر عندما فجر الوزير القاضي محمد مرتضى جلسة مجلس الوزراء بعدما أملى أولويات «الثنائي الشيعي»: تقييد التحقيق العدلي و«قبع» البيطار أو تعطيل الحكومة، وإلا «رح تشوفوا بالشارع شي ماشفتوه»! وكم بدا مثيراً للشفقة أداء الرئيسين عون وميقاتي!
ما جرى في منطقة الطيونة شكل ترجمة بالنار للتهديدات. لكن هل تعني محاكاة الحرب الأهلية، أن «حزب الله»، ذاهب إلى هذه الحرب التي اتهم حزب «القوات اللبنانية» بأنه يحضر لها؟ أغلب الظن أنه ليس بهذا الوارد، لأنه المسيطر على البلد وصاحب القرار والسطوة، وميليشيا الـ100 ألف مقاتل التي هدد بها ليست لحماية سلم اللبنانيين، فهذه القوة أبقت البلد في حال حرب باردة مكنت الدويلة من التغول على الدولة.
كل التصعيد، والممارسة الاستكبارية والاستهتار بالآخرين والاتهامات، وصولاً إلى قرار قاضي التحقيق العسكري «الاستماع» إلى سمير جعجع بشأن مواجهات الطيونة، وهو قرار ترهيبي، لا تبدل من المعطيات المثبتة بالصور والفيديو، ما لا يترك مجالاً للتفسير والتأويل والتلاعب بمسار الأحداث التي جرت. فلماذا إحياء شيء من الانقسام الآذاري، مع منح «القوات» دعماً لم تتوقعه وإن تأكد بعد حين أنه كان مزغولاً؟
لقد أراد «حزب الله» إنجاز 3 أهداف؛ أولها إبعاد المحقق العدلي البيطار وقفل التحقيق، وثانيها تحميل التشنج والشد الطائفي مسؤولية تطيير الاستحقاق الانتخابي، وبينهما الخلاص من عبء مثلته ثورة «17 تشرين».
باكراً طالب نصر الله القضاء بالاكتفاء بالتحقيق الأمني الأولي والمعالجة بالتعويضات (...) ولوحظ تنامي الضغوط لمنع الوصول إلى القرار الظني. هنا يتردد أن القرار قد يضيء على حلقات متفرعة، مثل مقتل العقيد جوزف سكاف، أول من حذر من شحنة الموت في عام 2014 وقد تم إهمال التقرير الذي رفعه! وكذلك مقتل الجمركي منير أبو رجيلي قبل موعد لقائه القاضي السابق صوان، إلى مقتل المصور جو بجاني الذي يقال إن كاميرته التقطت صدفة صوراً لموكب سيارات دفع رباعية مدمرة في المرفأ، فلمن يعود الموكب إن صحّ ذلك؟ لذا يصبح مفهوماً غضب الشيخ نعيم قاسم الذي قال: بسبب البيطار «كادت تحصل فتنة كبيرة على الطيونة»، وصولاً إلى قوله: «من الأفضل أن يرحل من أجل أن يستقر الوضع»!
مفهوم استهداف البيطار لأن ما بلورته تجربته، من حالة قضائية متقدمة فوق الترهيب، أمر يؤثر إيجاباً على المجرى اللاحق للسلطة القضائية برمتها. لقد رسم منهجه ما يجب أن تكون عليه العلاقة المستقبلية بين القضاء والطبقة السياسية، وخطّ طريق إنهاء عقود من تقييد الجرائم ضد مجهول، وقدم رافعة لعمل قوى التغيير التشرينية الساعية لاستعادة الدولة والدستور والقوانين التي وضعت كي تنفذ من دون استنسابية. لذلك كانت «الطيونة» بهدف إطاحته، وبالقدر نفسه أُريد منها خلق الأجواء التي تطيح الاستحقاق الانتخابي.
في قراءة سابقة أوردت في هذه الزاوية أن 19 نائباً من أكثرية «الحزب» فازوا بحفنة أصوات، وبعد «17 تشرين» تبدل الوضع ويكفي أن تتراجع الأكثرية 10 مقاعد ليصبح «حزب الله» عاجزاً عن الفرض قادراً فقط على العرقلة. والأكيد أن صفعة الانتخابات التي تلقتها ميليشيات «الحشد» العراقية، تعبر أيضاً عن مزاج المقترع اللبناني ما بعد «تشرين». وكيف سيرتسم المشهد النهائي لو تكرس حق المغتربين بالاقتراع، ومعروفة مؤشرات التصويت العقابي؟ لذلك لن يتخلى «حزب الله» عن أكثريته وإن كانت فاقدة للشرعية، وهو يعرف وعمليات قياس الرأي الدورية تؤكد، أن الأكثرية خرجت من التعليب، وأن هيمنة إيران ليست قدراً لا فرار منه! وفوق ذلك، البلد يتغير باتجاه بلورة كتلٍ شعبية منظمة، وعلى منظومة الفساد وحزبها القائد ألا يطمئنوا لركود آني ومؤقت... لكل ذلك ستتسع المعاناة لأنهم ما زالوا يراهنون على التطويع!