د. ياسر عبد العزيز
TT

عاهة إعلامية مستديمة!

يحفل واقعنا الإعلامي العربي بالكثير من التجارب المشرقة وجوانب الإجادة، ومع ذلك فإنه ينطوي أيضاً على الكثير من الخلل والممارسات الخاطئة، وهو في ذلك يماثل غيره من مجالات العمل التي تعرف في أدائها الخبيث والطيب.
لكن مع ذلك، فثمة عاهة إعلامية مستديمة تميز الأداء الإعلامي في معظم المجتمعات العربية، وهي عاهة تكرست حتى باتت سمة رئيسية في أداء المنظومات الإعلامية في منطقتنا، ولا يبدو أن محاولات تحديها أو التعافي منها تبوء بنتائج مُرضية حتى الآن.
بدأت التفتُ إلى أهمية تلك العاهة مبكراً جداً، ولاحظت أنها لا تقتصر على مجتمع عربي معين بقدر ما تمتد ليشمل تأثيرها عموم الثقافة الإعلامية العربية، حتى باتت مرضاً مزمناً يصعب جداً تخيل أحوال «المريض» المصاب به من دونه، بعدما ألفه هذا الأخير وتعود عليه، حتى عدَّه من بين سماته الخاصة التي لا يجوز التخلي عنها.
كانت بداية التعرف إلى خطورة هذه العاهة مع عناوين شائعة في المعالجات الصحافية العربية من نوع «قتلها لسوء سلوكها»، أو عبارات افتتاحية لتقارير خبرية من نوع «تجرد أب من مشاعر الأبوة وقتل أبناءه من دون سبب...»، أو مقابلات تلفزيونية يبدأها المذيع بتقديم ضيفه الشاب للجمهور قائلاً: «نلتقي مع الشاب الذي نجح في اختراع سيارة تعمل بالماء عوضاً عن الوقود».
وفي كل تلك الممارسات كان من السهل جداً تشخيص تلك العاهة وتعيينها على الوجه المحدد: تقديم الرأي على أنه حقيقة.
نعم، ذلك هو التشخيص الدقيق لهذه الممارسة الخاطئة المزمنة؛ إذ يقول: «قاتل زوجته» لوسائل الإعلام، أو في تحقيقات الشرطة: «قتلتها لأنها سيئة السلوك»، أو تقول زوجة الأب المتهم بقتل أبنائه للمباحث إنه «بلا مشاعر، وقتلهم من دون سبب»، أو يدّعي أحد الخريجين أنه «اخترع سيارة تعمل بالماء»، فلا يكون من قطاع كبير من صحافيينا إلا أن يتلقفوا تلك الأقوال والآراء ويقدموها إلى الجمهور على أنها حقائق.
قد تكون القتيلة الأولى سيئة السلوك بالفعل لكنّ هذا لم يكن قد ثبت حين كُتب هذا العنوان، وقد يكون الأب قتل أبناءه لأنه بلا مشاعر حقاً، لكنّ هذا الأمر يحتاج إلى إثبات، وقد يكون اختراع هذا الشاب ذا قيمة فعلاً، لكنّ هذا الأمر يحتاج إلى تصديق واعتماد من الجهة المسؤولة عن تقييم المبتكرات.
الأسبوع الماضي، انشغل الرأي العام المصري بثلاث قضايا؛ أولاها تتعلق برجل ادّعى في مقابلة تلفزيونية أنه تزوج 33 امرأة في سنتين لممارسة دور «المحلل»، وثانيتها تختص بصيدلانية شابة قالت على «السوشيال ميديا» ووسائل الإعلام إنها تعرضت لاضطهاد واعتداء من زميلات لها في العمل لأنها «ليست محجبة»، وثالثتها تتصل بفنان شاب قُدمت في حقه اتهامات بـ«الاعتداء على فتيات والتحرش بهن» في ورشة للتمثيل يملكها ويديرها.
لقد قام الإعلام بشقيه «التقليدي» و«السوشيالي» في إطار معالجته لتلك القضايا الثلاث بدور شديد الخطورة والخطل؛ إذ تم تقديم «المُحلل» المزعوم للجمهور على أنه تزوج عشرات المرات بالفعل، من دون تقديم أي إثبات لتلك الرواية، ثم ما لبث أن خرج هذا الشاب عبر «السوشيال ميديا» لاحقاً ليقول إنه «كذب» ولم يتزوج أبداً كـ«مُحلل».
كما تم تقديم واقعة الصيدلانية الشابة على أنها حقيقية للجمهور، وهو أمر استنفر حملات مناصرة ودعم لها، قبل أن تقول النيابة إنها «كاذبة، وقدمت معلومات مضللة، وهدفت إلى إثارة الرأي العام».
أما واقعة الممثل الشاب المتهم بـ«التحرش والاعتداء الجنسي»، فهي ما زالت في مراحل المحاكمة، لكنّ الإعلام «التقليدي» و«السوشيال ميديا» حسما الأمر تماماً، وقدماه للجمهور بوصفه «مجرماً»، وقدما الشاكيات بوصفهن «ضحايا»، وهو أمر لم يحسمه القضاء بعد.
إن الصحافي لا ينقل للناس «حقائق»، لكنه ينقل لهم ما يستطيع أن يثبت أنه «حقائق»، أما ما يرد على ألسنة المصادر من إفادات، فلا مانع أبداً من نقلها، لكن بوصفها آراء طرف من الأطراف، وهو أمر يستلزم موازنتها بآراء غيره من الأطراف ذات الصلة بالواقعة.
بسبب هذه العاهة المستديمة يخسر بعض الإعلام العربي ثقة الناس واحترامهم، وقد أتت «السوشيال ميديا» فعمّقت هذه الممارسة الخاطئة، وحوّلتها إلى حملات محمومة في بعض الأحيان، وهو أمر يكلف البعض سمعته، أو يقوّض سلامه النفسي، أو يزعزع مركزه القانوني.
لا يجوز أن نقدم آراء الأطراف على أنها حقائق، ولا ينبغي أن نعد الإفادات حقائق إلا بعد إثباتها.