كيت ميرفي
TT

هل تسمح لأحد العلماء أن يصيبك بـ«كورونا»؟

في عصر ارتداء الكمامات والتعقيم الإجباري لليدين ووضع الفواصل الزجاجية بين البشر، فإنه يبدو من غير المعقول أبداً أن نعلم أن بعض الأشخاص كانوا يقومون منذ أكثر من 40 عاماً بالتسجيل بحماس، حتى إنه غالباً ما كان يتم وضعهم في قائمة انتظار، للحصول على فيروسات الجهاز التنفسي، بما في ذلك فيروسات «كورونا»، التي يتم تقطيرها في أنوفهم.
فهؤلاء كانوا متطوعين في وحدة نزلات البرد المشتركة التي أنشأها مجلس البحوث الطبية التابع للحكومة البريطانية في عام 1946. وقد كانت مهمة هذه الوحدة، التي كانت تقع في مستشفى ميداني عسكري أميركي مهجور في الريف الإنجليزي، هي إيجاد علاج لنزلات البرد، ومن خلال القيام بذلك زيادة الإنتاجية في ظل محاولة الدولة التي كانت منكوبة في ذلك الوقت لإعادة البناء بعد الحرب العالمية الثانية.
وكل أسبوعين، كان يصل 30 مشاركاً إلى سالزبوري بلين، التي كانت تقع على مقربة من ستونهنغ، للاستمتاع بالأجواء الريفية، وربما القيام ببعض الرسم أو العمل على كتابة رواية جديدة، وكذلك للمقامرة على الإصابة بالمرض، وقد أصيب حوالي ثلث هذا الرقم تقريباً، ولكن وفقاً لروايات المشاركين، فإن ذلك لم يمنع الكثير منهم من العودة إلى المكان عاماً بعد عام، إذ كان البعض يأتي لقضاء شهر العسل.
ولن يكون من المبالغة أن نتحدث عن الأهمية الشديدة لهذا المشروع العلمي الذي قد يبدو غريباً، فقد كان يتم الإعلان عنه في الإعلانات والصحف على أنه «عطلة رخيصة ومريحة»، وقد اكتشف الباحثون في وحدة نزلات البرد أن فيروسات «كورونا» كانت مجرد واحدة من أكثر من 100 من مسببات الأمراض التي تسبب أعراضاً شبيهة بالزكام، مما يجعل وجود علاج واحد لكل منها أمراً بعيد المنال، وذلك على عكس الاعتقاد العلمي الشائع في السابق بأن نزلات البرد كانت ناتجة عن كائن حي واحد، والذي كان يعتقد في ذلك الوقت أنه البكتيريا.
وقد كان من المهم للغاية قرار وحدة نزلات البرد المشتركة إنشاء نموذج لما يسمى بدراسات التحدي البشري التي مهدت الطريق لأول دراسة تحدٍ بشري لـ(كوفيد - 19) والتي اكتملت للتو في بريطانيا، حيث أصيب متطوعون شبان يتمتعون بصحة جيدة وغير محصنين باللقاحات بالعدوى بينما كان الباحثون يراقبون بعناية كيف استجابت أجسادهم لهذه العدوى.
وفي ذلك الوقت، كما هو الحال الآن، كان هناك الكثير من الانتقادات لتعمد إصابة أو «تحدي» متطوعين أصحاء بمسببات الأمراض، إذ إنه كان ينظر لها على أنها تمثل انتهاكاً للمبدأ الطبي المتمثل في «عدم إلحاق الضرر»، ولكن هذه الطريقة كانت تمثل فرصة فريدة لاكتشاف أسباب المرض وانتقاله وتطوره، بالإضافة إلى القدرة على اختبار فاعلية العلاجات المقترحة بسرعة أكبر.
وقد كان هذا هو السبب الذي جعل حتى المنتقدين للتجربة يستفيدون من الأبحاث التي خرجت من وحدة نزلات البرد، ومن المحتمل أن يكون هناك اهتمام كبير بالمثل عندما يصدر الباحثون البريطانيون بيانات من دراسة التحدي البشري لـ(كوفيد - 19)، إذ يمكن أن تخبرنا هذه الأنواع من الدراسات بأشياء لا تستطيع أنواع أخرى من الدراسات أن تخبرنا بها.
ويقول الدكتور كريستوفر تشيو، أستاذ الأمراض المعدية في «إمبريال كوليدج لندن» وكبير الباحثين في دراسة التحدي البشري لكوفيد البريطانية: «نحن قادرون على تحديد الاختلافات المناعية بين أولئك الذين يصابون بالعدوى والذين يقاومون العدوى ثم معرفة أي أجزاء من الجهاز المناعي يمكن تحفيزها لتوفير الحماية».
ويعود تاريخ دراسات التحدي البشري إلى ما قبل وحدة نزلات البرد، والتي ربما كان أشهرها عندما قام إدوارد جينر في عام 1796 بتلقيح طفل سليم يبلغ من العمر 8 سنوات بجدري البقر المستمد من آفة موجودة على يد عاملة ألبان، وقد أدى هذا التحدي إلى إنشاء أول لقاح والقضاء في نهاية المطاف على مرض الجدري.
كما أُجريت دراسات أخرى حول التحديات البشرية التي أجريت على أسرى الحرب، وغيرهم ممن لم يعطوا موافقتهم المستنيرة، وقد أدت مثل هذه الانتهاكات للنزاهة العلمية إلى إصدار قانون «نورمبرغ» وإعلان «هلسنكي»، وكلاهما تمت صياغته لحماية الأشخاص الذين يخضعون للبحث، ولكن حتى مع وجود الأطر والاتفاقيات الأخلاقية، فإن دراسات التحدي البشري تبدو نادرة اليوم.
وفي الولايات المتحدة، أدت العوائق المتعلقة بالجهات التنظيمية إلى عدم إجراء دراسات التحدي البشري باستثناء قلة قليلة منها فقط والتي كانت شديدة الأهمية، حيث كان معظمها لإيجاد علاجات أفضل للملاريا والكوليرا والإنفلونزا.
ويشعر الأشخاص المعنيون بأخلاقيات العلم والجهات المنظمة براحة أكبر في الموافقة على التجارب السريرية التي يتم فيها إعطاء الأشخاص علاجاً، على سبيل المثال دواء أو لقاح، لمعرفة ما إذا كان ذلك يساعد في تحسين الحالة لدى المتطوعين بالفعل، أو يمكن أن يمنع الأعراض من التطور لاحقاً.
ولكن يبدو هذا الموقف محبطاً لمؤيدي تجارب التحدي البشري، الذين يجادلون بأن المرحلة الأولى من التجارب السريرية، والتي يتعرض فيها البشر لعلاج لاختبار سلامته لأول مرة هي بطبيعتها محفوفة بالمخاطر، وعلاوة على ذلك، فإن دراسة حالات الأشخاص المصابين بالفعل، أو المعرضين لخطر الإصابة بالمرض، لا تخبر العلماء بالكثير من المعلومات عن سبب وكيفية إصابتهم بالمرض في المقام الأول.
ويقول الدكتور ماثيو ميمولي، مدير وحدة الدراسات السريرية لمختبر الأمراض المعدية في المعهد الوطني للحساسية: «عندما نتعامل مع شخص مريض بالفعل، فإنه عادة ما يكون قد فاتت أيام معدودة فقط على إصابته بالعدوى، وذلك لأنه وفقاً لعلم المناعة، فإن الكثير من الإجراءات التي تحدد ما إذا كان الشخص مريضاً أم لا تحدث خلال أول 24 إلى 72 ساعة».
وقد أجرى الدكتور ميمولي العديد من دراسات تحدي الإنفلونزا وأعد بروتوكولاً لتجربة تحدي (كوفيد - 19) التي رفضها المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية العام الماضي لأنه شعر بأنه لم يكن هناك ما يكفي من المعلومات حول الفيروس، كما لم تكن هناك علاجات إنقاذ فعالة، وذلك وفقاً لبيان من مكتب مدير المعهد الدكتور أنتوني فاوتشي.
وقد تم تشكيل مجموعة لإدارة تجربة تحدي (كوفيد - 19) البريطانية، والتي تضمنت العلماء الذين تدربوا في وحدة نزلات البرد المشتركة، وتمكنوا من الوصول إلى البيانات القوية في الوقت الفعلي التابعة للخدمات الصحية الوطنية البريطانية حول حالات دخول المستشفى والوفيات الخاصة بـ(كوفيد - 19).
ويقول الباحثون الذين صمموا الدراسة إنهم شعروا بالثقة في أن هناك خطراً ضئيلاً فقط على المتطوعين الأصحاء غير المطعمين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عاماً المشاركين في التجربة، إذ لم تكن هناك أي أعراض سلبية خطيرة لدى هؤلاء المشاركين الـ36، ولكن من المقرر أن يستمر رصدهم على مدى العام المقبل.
وقد كان الهدف من الدراسة هو تحديد أقل كمية لازمة من الفيروس لإصابة شخص ما بشكل آمن وموثوق به، بحيث يمكن للباحثين لاحقاً اختبار فاعلية اللقاحات أو مضادات الفيروسات بسهولة على متطوعين في تجارب التحدي المستقبلية.
ويقول الدكتور أندرو كاتشبول، كبير المسؤولين العلميين في hVIVO، وهي شركة بريطانية للخدمات السريرية والمخبرية التي دخلت في شراكة مع «إمبريال كوليدج لندن» لإجراء دراسة التحدي البشري لـ(كوفيد - 19) البريطانية.
وقد تمت إصابة المتطوعين بسلالة «كورونا» الأصلية المكتشفة لأول مرة في ووهان، الصين، ولكن يتم تطوير سلالة دلتا لاستخدامها في تجارب التحدي البشري اللاحقة المحتملة.
ويقول الدكتور تشيو إن «فيروسات (كورونا) لن تختفي وستكون هناك مخاطر مستمرة من ظهور فيروسات (كورونا) جديدة شديدة العدوى، ولذا فإننا بحاجة إلى فهم العوامل المناعية بشكل أفضل بكثير حتى نكون مستعدين بشكل أفضل للوباء القادم عندما يأتي».
فيما يقول مكتب الدكتور فاوتشي إن المعهد ليس لديه خطط لتمويل تجارب التحدي البشري لـ(كوفيد - 19) في المستقبل، وهو القرار الذي يحظى بدعم العديد من العلماء المهتمين بالأخلاقيات.
ويقول الدكتور جيفري كان، مدير معهد «جونز هوبكنز بيرمان»: «لن تطلب من الناس التضحية بأنفسهم من أجل مصلحة المجتمع، فنحن في الولايات المتحدة نركز كثيراً على حماية الحقوق والصحة والحريات الفردية، بينما في المجتمعات الأكثر اهتماماً بالمجتمع على حساب الفرد، فإن الأمر يتعلق بالصالح العام».
لكن جوش موريسون، المؤسس المشارك لمنظمة «1Day Sooner»، التي تدافع عن أكثر من 40 ألف متطوع محتمل للتحدي البشري، يجادل بأنه يجب أن يكون من حقه والآخرين أيضا تحمل المخاطر من أجل الصالح العام، إذ يقول: «صحيح أن معظم الناس لن يرغبوا في أن يكونوا جزءاً من دراسة تحدي بشري لـ(كوفيد - 19) وهذا جيد تماماً، ولكن لا ينبغي لهم أن يفرضوا خياراتهم على الأشخاص الآخرين».
ولا يعني ذلك أن المشاركين في تجربة التحدي البشري لا يتم تعويضهم عن هذه المشاركة، إذ إنهم يحصلون على حوالي 6000 دولار أميركي، فضلاً عن قضاء عطلة مجانية في البلاد، كما كان يتم توفير السكن والوجبات والنفقات الطارئة، لأولئك الذين شاركوا في دراسات في وحدة نزلات البرد المشتركة (التي تم إغلاقها في عام 1990 عندما تم سحب تمويلها من أجل تمويل أبحاث مرض نقص المناعة المكتسب - الإيدز).
ولكن استناداً على المقابلات القديمة والحديثة التي أجريت مع المشاركين في تجارب التحدي البشري، فإن الدافع الحقيقي وراء التطوع في هذا العمل هو رغبة الشخص في أن يكون في خدمة المجتمع، إذ يقول المتطوعون إن احتمالية مساعدة البشرية جعلتهم يشعرون بالرضا، ومنحتهم إحساساً بالفاعلية، وذلك سواء في أعقاب الحرب العالمية الثانية الكئيبة أو الآن في أيام عدم اليقين في ظل وجود وباء عالمي.
وكما قال أحد المشاركين في تجربة التحدي البشري لـ(كوفيد - 19) في بريطانيا: «هل تعرفون عبارة (اذكر معلومة واحدة مثيرة للاهتمام عن نفسك) التي تثير الرعب في نفوس الجميع؟ لقد توصلت إلى رد يمكن استخدامه إلى الأبد لهذه العبارة، وهي أنني قد فعلت شيئا أحدث فرقاً للبشرية».