زهير الحارثي
كاتب وبرلماني سعودي. كان عضواً في مجلس الشورى السعودي، وكان رئيساً للجنة الشؤون الخارجية، وقبلها كان عضواً في مجلس «هيئة حقوق الإنسان السعودية» والناطق الرسمي باسمها. حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة القانون من جامعة كِنت - كانتربري في بريطانيا. وهو حالياً عضو في مجلس أمناء «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني». عمل في النيابة العامة السعودية إلى أن أصبح رئيساً لدائرة تحقيق وادعاء عام. مارس الكتابة الصحافية منذ نحو 3 عقود.
TT

نزعات الانفصال... مقومات الدولة الجاذبة!

ما الذي يدفع أقاليم بعينها نحو الانفصال والاستقلال عن محيطها الأكبر وانتمائها الأصيل؟ الحقيقة أن نزعة الانفصال عن الوطن الأم ليست بالأمر الجديد وإن طفت على السطح وكأنها فيروس ينتقل من مكان لآخر، لا سيما في وجود أرضية وبيئة مناسبة فينمو فيها ويكبر لينتهي به الأمر محققاً الهدف الذي زُرع من أجله. القراءة المحايدة ترى أن هذه القضية أصبحت دولية أكثر من كونها قُطرية نظراً لاهتمام المجتمع الدولي بها لا سيما الدول الكبرى، والسبب كما يبدو يعود لرغبتهم في التأثير على سياقاتها والخشية من تبعاتها.
في عالمنا العربي يحلم البعض بوطن جامع لا سيما في الدول التي تقطنها أقليات ذات عرقيات أو أديان أو مذاهب مختلفة عن انتماء الأغلبية. ليس بالضرورة أن لبّ المشكلة يكمن في المواطن العربي، بقدر ما أنه نتيجة لأسبابها. بعبارة أخرى، ما هو إلا ضحية للنسق الذي يُحكم به. هكذا سلوكيات تكشف عن أن العلاقة بين الدولة والمجتمع يشوبها الكثير من الريبة والاحتقان ما يتولد عنهما فقدان الثقة ونتوءات عدم الاستقرار.
تراكمات المعاناة عبر السنين في بعض البلدان العربية تكشف عن وجود أسباب موضوعية تدفعها للتفكير في اتجاه الانفصال والاستقلال. حالة قد تصل لذروتها واللافت أنه يتزامن معها بالضرورة انسداد للأفق السياسي ما بين المركز والطرف. طبعاً هي مؤشرات على انقسامات عرقية ومذهبية ودينية تتبلور في عالمنا، والأمثلة كثيرة ولم يتوقف الأمر عند العرب بل تجاوزه ليصل لدول ديمقراطية كإسبانيا (مطالبات كتالونيا) والهند (انفصال كشمير) مثلاً أو شمولية كالصين (تايوان) وغيرها من الدول. السبب الرئيسي في حالات هذه الدول هو عدم قدرة النظام الأم على إرساء المقومات الأساسية لوحدة دولة جاذبة رغم الضغوط الخارجية والمطالب الشعبية للمحافظة على النسيج المجتمعي ومخاطر التقسيم. على سبيل المثال، جاء انفصال جنوب السودان كسابقة لافتة في تاريخنا المعاصر، ثم لم تلبث حمم التشظي أن وصلت إلى تضاريس أخرى. إقليم كردستان كان يطالب بحق تقرير المصير لأكراد العراق منذ عقود وقد تحقق له حكم ذاتي في فترة صدام حسين، غير أن سقف المطالب الكردية ارتفع ليقرر استفتاءً شعبياً حول استقلال الإقليم عن دولة العراق. مسوّغات الأكراد لهكذا قرار تستند إلى قناعتهم بأنهم عانوا من التهميش والتجاهل وقد تحملوا كثيراً مطالبين بضرورة مراجعة السياسات. الأكراد يقولون إنه حين التعاطي مع المسألة الكردية من قبل المجتمع الدولي لا يتم النظر لما يعانونه من تغييب وتهميش وانتهاك حقوق، بل ينظرون إليها من زاوية عرقية بحتة وربطها بالعامل الجيوسياسي وتداعياته الأمنية، أي ربط العرق الكردي وعلاقته بالدول الأربع إيران وتركيا وسوريا والعراق. ومع ذلك سيناريو الانفصال يستبعده الكثيرون لعدم قبول المجتمع الدولي لأنه قد يفتح الباب لدعوات الأقليات في أوروبا، فضلاً عن تأثيره على تماسك الدولة القومية. رغم التحرك الكردستاني آنذاك وتسارع الأحداث فإنه كما كان متوقعاً لم تنجح المحاولة الانفصالية وكذلك في كتالونيا، حيث علقت الحكومة الإسبانية الحكم الذاتي فيها استناداً للدستور. نصل لقناعة أنه ومن خلال تراكم التجارب التي عاشتها الشعوب العربية خلال سبعة عقود لم تعد تتحمس لأي ارتباط آيديولوجي، لأن هدفها فقط هو الإمساك بالسلطة كما طرحها القوميون والبعثيون والشيوعيون وحركات الإسلام السياسي.
من الواضح أن تحديات تواجه الدولة الوطنية سببها تأجيل الشروع في الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مع أن مواجهة هكذا معوقات تتحقق بإرادة سياسية قادرة على إحداث تغيير لا سيما في غياب المؤسسات الدستورية وضعف مؤسسات المجتمع المدني.
هذه العوائق ما لم تعالج سوف تدفع باتجاه الاحتراب والنزاعات الحزبية والفكرية، وبالتالي من الطبيعي أن يحدث الافتراق. لم يعد خافياً أن ما يعوق عملية التحول الديمقراطي في المرحلة الانتقالية للدول العربية هو الانقسام الحاد، إن كان ما بين القوى الإسلامية والقوى الليبرالية، أو حتى بين المذاهب الإسلامية ذاتها، واتضح أن ما يُطرح من شعارات كلها هلامية وربما خادعة وهي تعبر عن مصلحة فئوية لهذا الفريق أو ذاك.
حتى تهضم عملية التحول الديمقراطي لا بد من توفر ظروف ملائمة للنهوض، وفق رؤية المفكر هشام جعيط، من إصلاح ديني وتحديث صناعي وتقني وتنوير فكري واجتماعي. غير أن القلق المتنامي يدور حول إشكالية قد تعرقل أي تقدم نهضوي تتمثل في الصراع المذهبي والصراع الطائفي اللذين استشريا في الجسد العربي، علاوة على ترسيخ العدالة الاجتماعية، ناهيك عن عدم تأسيس فكرة المواطنة التي تكرّس التسامي فوق الاختلاف وتعزز التعايش.
الحلول لهذه المعضلة تكمن في تراجع هذه الدول عن سياساتها ولعل الكونفدرالية أو حتى الفيدرالية تبقى حلاً ناجعاً لإشكالية هذه الأقليات وقد ينجح في اليمن وليبيا أيضاً لأنها مجتمعات قبلية ما يعني المحافظة على وحدة الدولة وعدم انهيارها لمفهوم الدولة الفاشلة. الملاحظ أن بعض الأطراف الخارجية تستغل قضايا الأقليات، والدول الكبرى المؤثرة تتعاطى مع هذا الملف وفقاً لمصالحها الاستراتيجية، ما يفسّر لنا حساسية المجتمع الدولي من حركات الانفصال.
نحن أمام حالة اجتماعية أو لنقل أنثروبولوجية وهي نتيجة ضعف المشروع التنموي وعدم تأسيس دولة المواطنة، ما أوصل الأمور لهذه الحال، ولا نملك بلورة سحرية للتنبؤ ولكن وفق المعطيات الراهنة قد تتشكل صور انشطارية في القادم من الأيام.