جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

جروح باريس لن تضمد في واشنطن

الأزمة الأميركية - الفرنسية، مؤخراً، حول صفقة الغواصات الأسترالية، وتشكيل تحالف ثلاثي أنغلو - ساكسوني، ضم واشنطن وكانبيرا ولندن، في منطقة «اندي - باسيفيك»، لم تنتهِ بعد، حتى بعد المكالمة الهاتفية الاسترضائية، في منتصف الأسبوع الماضي، بين الرئيسين جو بايدن وإيمانويل ماكرون وما أعقبها من بيان مشترك. ورغم أن الأزمة في ظاهرها تتعلق بصفقة تجارية عسكرية خسرتها فرنسا، لصالح أميركا وبريطانيا، لكنها في العمق تتعلق بتجاهل دعوة فرنسا إلى الانضمام إلى تحالف استراتيجي جديد، يعدُّ أهم تعاون دولي في القدرات خلال عقود، كما يؤكد المراقبون، نتج عنه إقصاء فرنسا من منطقة تعدها مهمة لمصالحها، وينتشر بها 7000 جندي فرنسي، وأكثر الساحات احتمالاً لأي مواجهات في القرن الحادي والعشرين. الصفقة أدت إلى إحداث صدع كبير في تحالف استراتيجي تاريخي بين أميركا وحلفائها من دول أوروبا الغربية عموماً، وفرنسا خصوصاً.
البيان المشترك عقب محادثة الرئيسين أشار إلى اعتراف الرئيس الأميركي بخطأ تجاهل التشاور مع الحلفاء الأوروبيين، ووعد بدور لهم في المنطقة مستقبلاً. لكن ذلك، قد يسهم في تضميد الجرح الفرنسي، ووقف نزيفه مؤقتاً، من دون تقديم ضمانات بلأمه كلية مستقبلاً.
التقارير الإخبارية المنشورة، على اختلافها، وما كتبه المعلقون من تحليلات، تلتقي مجتمعة حول مسألة مهمة تتمثل في اتفاقهم، حول نقطة محورية تتجسد في التغيير الذي شهدته قائمة الأولويات الأميركية، والذي بدوره أفضى إلى تغيير في اتجاه بناء تحالفاتها. بروز بكين على خريطة العالم كقوة اقتصادية هائلة، وقوة عسكرية مهددة بديلاً لموسكو، حتّم على صناع القرار في واشنطن، إعادة برمجة الأولويات، بما يضمن التهيؤ لمواجهة محتملة مستقبلاً.
الرئيس بايدن لم يبدأ برمجة الأولويات الأميركية. لكنه كان موجوداً في البيت الابيض، باعتباره نائباً للرئيس أوباما، لدى تصميم السياسة الأميركية الجديدة. ومن بعد أوباما، واصلت إدارة الرئيس دونالد ترمب ترسيخها. شعار «أميركا أولاً»، في حقيقته، ليس ابتداعاً ترمبياً. ما فعله ترمب هو أنه أخرجه من وراء الكواليس إلى العلن، بغرض تحريض أنصاره، وتحفيزهم وتجميعهم حوله. وما فعله الرئيس بايدن، مؤخراً، ليس إلا دفع القاطرة ذاتها مسافة أبعد في خط السير نفسه المصمم. فهو، كما يؤكد معلقون، لم يكن يهدف بفعله إلى إزعاج حلفائه الأوروبيين، بل كان براغماتياً. تلك البراغماتية تحديداً، استدعت بالضرورة إعادة فرز الحلفاء، واختيار المناسب منهم. وبالنسبة لأوروبا، فإن الصين، لم توضع في خانة الأعداء، بل صنفت في خانة الشريك والمنافس. وقبل وصول الرئيس بايدن إلى السلطة، وفي تجاهل لسياسة بكين في هونغ كونغ، وقمع المسلمين الأويغور، كافأ الاتحاد الأوروبي الصين بالتوقيع على مسودة اتفاق تجاري، اعتبرته واشنطن تحدياً علنياً لها. ورغماً عن ذلك، يؤكد معلقون غربيون أن الخطوة الأميركية الأخيرة سوف تدفع أكثر في اتجاه إضعاف تحالفها مع أوروبا. فرنسا، ثاني أكبر قوة في الاتحاد الأوروبي، كانت الضحية الأولى للاتفاق الثلاثي. واستناداً إلى تقارير إعلامية بريطانية، فإن الاتفاق تمّ في لندن، لدى انعقاد قمة الدول السبع الأخيرة، تحت غطاء من السرّية، ولم يتم إعلام قصر الإليزيه بالأمر إلا قبل ساعة من إعلان الصفقة. فبدت العملية كأنها سحب بساط الثقة فجأة من تحت قدمَي الرئيس ماكرون، وفي وقت يستعد فيه لخوض انتخابات رئاسية في شهر أبريل (نيسان) المقبل، بل وبمثابة تقديم ذخيرة لمنافسيه للانقضاض عليه. وهو ما فعلوه. ربما يفسر ذلك شدة رد الفعل الفرنسي، واللغة غير الدبلوماسية، في تصريحات وزير خارجيتها السيد جان إيف لودريان. كما انعكس ذلك، في التصرف غير المسبوق ممثلاً في استدعاء باريس للسفيرين الفرنسيين في واشنطن وكانبيرا للتشاور. الجدير بالإشارة والاهتمام، أن إعلان واشنطن على التحالف الجديد، وفقاً لمراقبين، كان في مساء اليوم نفسه الذي يستعد فيه الاتحاد الأوروبي إلى إعلان استراتيجيته في منطقة «اندو - باسيفيك».
كثير من المعلقين الغربيين لمحوا إلى أن تاريخ سجل فرنسا في واشنطن كان عاملاً مساعداً في تسريع المفاوضات والوصول إلى اتفاق. المعلقون يقصدون بذلك رفض باريس الدعوة الأميركية بالمشاركة في حرب أفغانستان عام 2001، وإدانة التدخل في العراق عام 2003. وبعضهم ذهب أبعد من ذلك، بالإشارة إلى مرحلة حكم الرئيس شارل ديغول. وربما كان الرئيس الفرنسي الأسبق، جورج بومبيدو أفضل من وصف علاقة بلاده بواشنطن بقوله إنها «حرب من دون دماء!». شركاء فرنسا في الاتحاد الأوروبي، خصوصاً في برلين وروما، لم يجدوا صعوبة في فك شفرة الرسالة الأميركية الموجهة. ولكنهم، على عكس باريس، حرصوا على ألا تتجاوز لغة تصريحاتهم مفردات القاموس الدبلوماسي.
السؤال حول تجاهل الفرنسيين التعرض للدور البريطاني في الأزمة، أثار أسئلة. وتطوع وزير الخارجية الفرنسي، في المؤتمرات الصحافية التي عقدها، بتقديم إجابات تُعدّ مهينة في عمومها. لكن لندن التزمت الصمت حيالها. وذكرت تقارير إعلامية بريطانية، أنه رغماً عن التصريحات الفرنسية، فإن القادة العسكريين ورؤساء أجهزة المخابرات من البلدين يواصلون يومياً تعاونهم على أتمّ وجه.