يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

91 عاماً: «هي لنا دار»... يوم ووطن استثناء!

يأتي اليوم الوطني الواحد والتسعون في مفارقة زمنية وتاريخية، حيث يفتتح السنة الأولى من العقد لإكمال قرن على المملكة العربية السعودية وتوحيدها وتجربتها الفريدة والاستثنائية في توحيد بلاد شاسعة مترامية الأطراف، وبتنوع ومكونات معقدة ومتنوعة تحولت إلى مزيج متآلف ونسيج مختلف حتى في علاقته ببيت الحكم السعودي، عاش معه ومن خلاله تجربة هويّة تستمد من التاريخ وصلابة الجغرافيا، لكنها تطمح إلى التجدد المستمر لمقاربتها الوجودية على مستوى الثقافة والعيش والاقتصاد؛ وهي مفارقة إذ تتجاور العراقة المقدسة باعتبارها قبلة مليار ونصف المليار مسلم مع السعي الحثيث صوب المستقبل، لا سيما بعد خمس سنوات من «الرؤية الطموحة 2030»... بين الإرث الكبير السعودي وروح الأجيال الجديدة من الشباب الذين هم جيل رؤيتها وصناع مستقبلها الآتي بتحديات كبيرة، لكن بطموح وصفه عراب رؤيتها ولي العهد السعودي، بأن حدوده عنان السماء.
سردية السعودية اليوم مذهلة وثرية للمتابعين والمراقبين من الخارج، لا سيما بعد سنوات من التحديات من انكسارات الربيع العربي إلى الملفات الشائكة إلى أزمة «كورونا» والنجاحات الكبرى في إدارة الأزمة، وصولاً إلى قيادة مجموعة العشرين... لكن الأكثر إبهاراً في ظل إقليم مهدد ومتشعب ومتذرر... هو «لُحمة المجتمع السعودي» وتقديره غير المحدود لفضيلة الاستقرار، فهو اليوم يضرب مثلاً مفارقاً للسائد بأطيافه ومناطقه وتنوعه وثرائه الثقافي والعرقي والمذهبي.
والحق يقال، فمنذ لحظة توحيد المملكة إلى «رؤية 2030» الطموحة هناك قصة سعودية مختلفة يجب أن تروى للأجيال، المفارقة كانت أننا اعتدنا على أن نسمعها بشكل مغلوط وصورة نمطية من الخارج وربما بشكل ناقص أو خجول من الداخل، اليوم مع مكانة المملكة وموقعها الجديد ورؤيتها آن الأوان للسعوديين أن يكتبوا سرديتهم الخاصة، وهو ما تسعى إليه جهات عدة من مشاريع توثيق الفنون والمذاقات إلى التوثيق الشفاهي للذاكرة إلى مشاريع ضخمة ذات طابع ثقافي، وهو يأتي من العُلا المبهرة، وصولاً إلى الدرعية وجدة القديمة، عدا المشاريع الأكثر قداسة وتوهجاً في بناء مكانة المملكة، الحرمين الشريفين بوابة القوة الناعمة والعلاقة الممتدة مع مشارق الأرض ومغاربها.
اليوم بداية عقد إكمال القرن السعودي المتميز، وهو ما يجعلنا نفهم أجواء ما قبل الحدث الذي اختير له شعار جميل ومؤثر «هي لنا دار» بما تعنيه من دلالاتها العميقة... السعودية الجديدة على موعد بعد غد تاريخي، حيث ذلك المارد العظيم الذي يكتب تجارب الأمم، ويدوِّن قصص الشعوب في بناء مستقبلها الذي يستلهم ماضيها وتراثها، من دون أن يكون حجر عثرة في نظرتها إلى القادم من التحديات.
على مستوى آخر، تعيش السعودية اليوم تجربة استثنائية تتصل بالتحولات العالمية الكبرى في السياسة والاقتصاد، إضافة إلى التوترات الإقليمية التي أعقبت أحداث الربيع العربي، وجرفت معها العديد من الدول واستقرارها وهويتها نحو دوامة من الفوضى والأزمات والاحتراب على امتلاك مفهوم الوطن، ومع تلك التحديات حرصت القيادة السعودية؛ وفي مقدمتها تطلعات خادم الحرمين الشريفين، إلى تأسيس مفهوم جديد للاستقرار والرفاه يعتمد على رؤية عرّابها ولي عهده الأمير محمد بن سلمان، الذي استجاب للتحديات العالمية وأطلق «رؤية 2030» الشاملة والطموحة، التي تهدف أساساً إلى الاستثمار في الإنسان السعودي قبل كل شيء، وتحويل أمن وسلامة الداخل إلى أولوية قصوى؛ خصوصاً مع رياح التطرف والإرهاب والتنظيمات المتشددة التي اتخذ الأمير الشاب معها موقف القطيعة الكاملة، معلناً الحرب الدائمة عليها.
لربما كان أدق وصف لما يحدث في السعودية المتجددة ما همس لي به صديق وفد إليها بعد انقطاع سنوات حين سألته، فقال إنها تبدو وكأنها «مملكة التفاصيل الصغيرة» منذ لحظة طلبه لتأشيرة الدخول الإلكترونية والرد السريع مع مبادرة «أهلاً بالعالم»، ووصولاً إلى تأمله مشاريعها ومدنها، والحديث عن رؤيتها والأرقام في كل بيت.
السعودية اليوم ورشة مفتوحة صوب المستقبل، حيث التحولات الضخمة على مستوى الحوكمة والدخول إلى عالم الرقمية والتقنية، والاهتمام الكبير بمؤسسات الدولة وتطويرها ومكافحة الفساد والمحسوبية، إضافة إلى خلق أجواء وفرص اقتصاد موازٍ لا يعتمد على مورد النفط؛ بل يتجاوزه إلى التفتيش عن كل الإمكانات والموارد الطبيعية والسياحية والدينية، لبناء اقتصاد مستدام.
وبإزاء هذه التجربة التنموية الجديدة، دشَّن ولي العهد السعودي خطاباً تحديثياً مغايراً في لغته وأهدافه، يشدد على محاربة التطرف، وملاحقة منتجيه ومصدريه، بصفته أحد أكبر عوائق المسار التنموي، وأكثر المهددات لأمن الأوطان واستقرارها.
نقطة تحول في التاريخ الحديث للمملكة التي قفزت على كل التحديات، وأبانت عن قدرتها المتفردة في دعم مسيرة الاستقرار في المنطقة، عبر سياسة حزم ورفاه محفوفة بتماسك داخلي ما زال عصيّاً على تحليل كثير من الشخصيات التي فشلت في قراءة سر هذا التلاحم بين رأس الهرم السياسي ومكونات الشعب المتنوعة... «هي لنا دار» سيقولها السعوديون بصوت متحد ومتلاحم بعد عامين من انكفاء دول العالم على الذات واكتشافها بسبب جائحة «كورونا» التي أعادت تعريف الأشياء، ومنها... أهمية الاستقرار والأمن والأمان ومنطق الدولة!