حنا صالح
كاتب لبناني
TT

حتى لا يبقى لبنان ضحية جريمة منظمة!

اليوم الخميس الثاني من سبتمبر (أيلول) يكون قد انقضى 389 يوماً ولبنان بدون حكومة. لقد أطاح تفجير بيروت في الرابع من أغسطس (آب) 2020، حكومة حسان دياب في العاشر منه. وتم إفشال المكلفين تشكيل حكومة بديلة: مصطفى أديب وسعد الحريري واليوم نجيب ميقاتي على طريق الاعتكاف فالاعتذار. إنها الفترة الأطول التي يعيشها لبنان بدون حكومة، لكنها الأخطر بحيث بدا كل يوم يمر على الناس أطول من دهر، فهل كتب على لبنان أن يبقى ضحية جريمة منظمة خدمة لمشروع الاستتباع و«شهوة» السلطة؟
لنراقب الصورة فماذا نرى؟ اتسعت الانهيارات وأصبحت تضرب حياة أكثرية اللبنانيين، الذين اُفقروا بعدما نهبت أموالهم المودعة في المصارف، وأفقدت الإفلاسات مئات الآلاف أشغالهم ووظائفهم. وبات الخطر الوجودي يتهدد البلد ويتعذر انتشاله، وتكتمل فصوله منهبة العصر مع أسوأ قرار تم وضعه في التنفيذ بعد «17 تشرين» 2019، وقضى بنقل الثروة إلى الخارج، إن من خلال تهريب الأموال أو جرّاء عمليات التهريب المقونن للمحروقات والدواء والطحين، وهي سلعٍ استراتيجية مدعومة من ودائع تعود للمواطنين.
المشاهد اللبنانية مخيفة، ويمكن رصد الكثير من المخاطر المتربصة بالآتي من الأيام. البؤس يلف حياة الناس المرميين في الطوابير حول محطات الوقود، أو الأفران، أو أمام بقية من مستشفيات ما زالت تعمل. وأعلى حالات القهر جسّدها مشهد مرضى السرطان الذين حملوا أوجاعهم وتظاهروا وسط بيروت مطالبين بالدواء المحجوب عنهم، لأن كارتل إجرامياً يتاجر بحياة المرضى وضعهم أمام خطر إبادة جماعية. بالمقابل، برزت فوضى واسعة وتفلت أمني ارتبطت بسوق سوداء للمحروقات لتنشأ حالة «دليفري» للبنزين. بدت هذه الحالة، محمية من جهات طائفية متسلطة، أطلقت مجموعات من الشبيحة «تسلبطوا» على الشارع ما فاقم الإذلال، والخطير أن ما نشهده أشبه بمشروع بناء عصابات منظمة. وتقدم مشهد التعديات، وتحريك الأجواء الطائفية والعصبيات العشائرية والمناطقية، وسط انكفاء للسلطة وغيابها التام، إلا من إعلان وزير الداخلية أنه «حذر من ذلك» منذ زمن، ولم يُخبر الناس عن الإجراءات التي اتخذها لمنع هذا التدهور؟
توازياً تقدم مشهد أهالي ضحايا جريمة تفجير المرفأ، يطوقون منزل المدعي العام غسان عويدات، وكلهم إصرار على كشف الحقيقة وإحقاق العدالة؛ ليُفتضح على الملء دور بعض السلطة القضائية الأعلى ومسعاها في تهريب المدعى عليهم بجناية القتل من العدالة، فيعلن عويدات أنه لن ينفذ مذكرة إحضار حسان دياب، متناسياً تنحيه عن الملف بسبب تضارب المصالح، وليتبنى وجهة نظر نواب النيترات الذين وقعوا العريضة الشهيرة. إنه أمر مثير للغثيان أن تقفز جهاتٍ قضائية عليا فوق جريمة تفجير المرفأ، وحدوث إبادة جماعية أدت إلى سقوط 219 ضحية، وتظهر لا مبالاة حيال استهداف العدالة والإصرار على إبقاء القضاء مستتبعاً. إنه مشهد مقلق لما يرمز إليه، لأن تطويع القضاء وحجز العدالة عناصر تخدم مخطط فرض تغيير هوية البلد بإلحاقه بالمشروع الإمبراطوري الإيراني، وتحوله إلى منصة صواريخ وكبتاغون ضد المنطقة وضد كل أصدقاء لبنان التقليديين.
كان مسلّماً به أن تأليف حكومة بديلة سيغير ولو جزئياً من المشهد أقله لجهة فرملة الانهيار. لكن مماحكات القصر منعت التأليف، واستمرت الطروحات عن «حقوق» المسيحيين و«الصلاحيات» في سعي للعودة إلى ما قبل الطائف والدستور. وبدا أن لا حدود أمام دوامة طروحات بعبدا ومطالبها لتمضي «التايتنك» اللبنانية نحو الارتطام؟ وعندما تصل الأمور إلى حد أولوية التحكم في الحكومة أو لا حكومة، وبالتالي عدم الالتفات، إلى تداعيات تحلل المؤسسات، واختطاف الدولة، الجهة الوحيدة التي يمكن أن توفر الاستقرار والازدهار، تتعدد الأسئلة عن الأهلية الأخلاقية والسياسية للممسكين بخناق لبنان. فلنتخيل أنه ما من ردة فعل حيال تقدم احتمالات إقفال الجامعة الوطنية والتعليم الرسمي، وهو أمر تجنبه لبنان في سنوات الحرب الأهلية، وعدم اهتمام بالعتمة لغياب الكهرباء، وشح المحروقات والدواء، وشح الغذاء، ووجود 4 ملايين إنسان مهددين بعدم الحصول على مياه للشرب، وأن 77 في المائة من الشباب قرروا الهجرة، التي قد تكون الأكبر بعد هجرات الحرب الأهلية، ومعها يفقد لبنان نخبة المجتمع.
التمادي في دور رئيس الجمهورية بشأن تأليف الحكومة بات فاقعاً. لديه تفسيرات دستورية «غب الطلب» مع أن كلمة تشكيل حكومة، وردت فقط في المادة 64 التي نصت على أن «الرئيس المكلف يجري الاستشارات لتشكيل الحكومة ويوقع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها»، لينحصر دور الرئيس في توقيع مرسوم التشكيل ليس إلّا، لأن رئيس الحكومة يتحمل المسؤولية أمام البرلمان. وهذا الأمر أكدته الممارسة السياسية قبل الطائف. ففي عام 1975 تم تكليف رشيد كرامي، لكنه بعد زيارتين للقصر اكتشف العراقيل، فأعلن أنه ذاهب إلى «بقاعصفرين»، حيث يصطاف، و«إذا وافقتم على التأليف اتصلوا بي»، وبعد 35 يوماً أعلنت الحكومة، ولم يعلن يومها الرئيس سليمان فرنجية الرفض والثورة. قبل ذلك أدرج رياض الصلح عبارة لافتة في البيان الوزاري لأول حكومة بعد الاستقلال: «هذا هو عنوان الحكومة التي كان لي شرف تأليفها ورئاستها». ولم يعترض الرئيس بشارة الخوري على الإعلان الصريح بأن الصلح هو من شكّل الحكومة.
لكن حروب تأليف حكومات المحاصصة حدثت، ولم يكن رؤساء الحكومات يتجاهلون رغبات الرؤساء بأسماء من أصحاب الكفاية، لكن الجديد منحى التعطيل الكامل للبلد، كنتيجة لمتغير طرأ بعد اتفاق الدوحة في عام 2008 عندما ارتبطت قرارات البلد بفائض قوة الدويلة، (ومن خلفها طهران)، وفُرض الثلث المعطل لتقييد القرار الحكومي. فبات أمر تشكيل الحكومات جزءاً من الحسابات الإيرانية. لكن مشهد الشد والجذب والتداعيات، يوحي بأن فائض القوة يتيح حالة تحكم، هي أعجز من متطلبات إدارة الحكم، بما هو حد أدنى من تلبية المطالب ومحاكاة الهموم. وبمعزل عن تمادي ظواهر التعسف ومحاولات التحشيد الطائفي وإطلاق العصبيات، ما زالت أكثرية شعبية في مواجهة مع منظومة الحكم، وقلة من اللبنانيين في جيب المتحكمين، وحتى في أحلك ظروف إدارة الظهر لأصدقاء لبنان بدا أن البلد ليس متروكاً بشكلٍ كلي.
لقد حولوا لبنان إلى حقل تجارب، نظام المحاصصة عنوان منهبة وفساد دائمين، وزج البلد قسراً في صراعات المحاور تسبب في خللٍ بين مكوناته، والالتحاق بالممانعة أدى إلى العزلة والضعف والهجرة والمجاعة. هذا الوضع من غير الجائز أن يستمر، فكل يوم يمر على لبنان يعمق حجم انهياراته، وسيكون من الصعب انتشاله ما لم يتم كسر هذا المسار، بالتصويب على مسؤولية الرئاسة، وجعل مطلب الاستقالة محور جدول الأعمال الشعبي والسياسي، لإسقاط تحول القصر إلى واجهة لمشروع خارجي يريد تغيير هوية البلد، ويتوهم أصحابه أن الفراغ أقصر الطرق إلى ذلك. إن إسقاط الغطاء يعري هذا المشروع ويفضحه ويبرز مثالبه. الوقت داهم والخطر الأكبر بقاء البلد ورقة في أجندة خارجية وضحية طموحاتٍ شخصية.