تركت سلسلة الأزمات التي شهدتها أفغانستان العديد من الأميركيين يتساءلون ما إذا كانت مصداقيتنا على الصعيد العالمي قد تعرضت لضربة قاتلة. لم تكن الولايات المتحدة، منذ سقوط سايغون والإجلاء المخزي لآخر أميركي عام 1975، عرضة لمثل هذه التساؤلات الجوهرية حول مصداقيتها، وما إذا كان الأصدقاء والحلفاء سيتمكنون مرة أخرى من الاعتماد على التزامات وتعهدات الولايات المتحدة. ومع ذلك، وقبل أن نخلص إلى نتائج حاسمة، دعونا ننظر إلى الصورة من منظور نسبي مناسب.
بالتأكيد كان التدخل في فيتنام، الذي يجري الاستشهاد به كثيراً هذه الأيام، كارثة. ورغم ذلك، فإنه لم يسطر نهاية القيادة الأميركية على الصعيد العالمي، ولم يدفع الآخرين للاعتقاد بأنهم لا يستطيعون الاعتماد على الولايات المتحدة. ومنذ ذلك الحين، ظهرت العديد من التحديات الجيوسياسية الأخرى، وصدرت قرارات رفيعة المستوى (أو غابت) على نحو ألقى بظلال من الشك على مصداقية الولايات المتحدة. ومع ذلك، لم يتسبب أيٌ من ذلك في تضاؤل النفوذ الأميركي.
في عهد إدارة كارتر، استمرت أزمة الرهائن الإيرانية - التي شهدت فشل مهمة الإنقاذ - لأكثر عن عام عاين خلاله العالم عجزاً أميركياً جلياً. وبعد خسارة 241 من مشاة البحرية في تفجير ثكنة بيروت عام 1983، تعهد الرئيس رونالد ريغان بجعل الجناة يدفعون الثمن، لكن في غضون أشهر قليلة، سحب ريغان جميع القوات من لبنان. ولم ترد الولايات المتحدة قط على حادث التفجير.
أما مع الرئيس دونالد ترمب، نجد أن الأمثلة كثيرة للغاية على نحو يستعصي إحصاؤه. ودائماً ما كان الخيار الثاني أمام ترمب إطلاق تهديدات متكررة بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، علاوة على اتخاذه قراراً متسرعاً بالانسحاب من سوريا (تراجع عنه جزئياً مستشاروه).
الواضح أن كل من هذه الأمثلة أضر بالمصداقية الأميركية في جميع أنحاء العالم، وإن لم يكن بالضرورة بالدرجة نفسها. ورغم هذا، استمرت الدول في طلب - وعرض - الدعم.
ورغم الخروج الفوضوي من كابل والتفجيرات المدمرة التي شهدها مطار كابول، فإن أفغانستان لن تكون مختلفة. سوف ينتقد الشركاء والحلفاء علانية القرارات الأميركية لبعض الوقت، بينما يستمرون في الوقت نفسه على الاعتماد على الاقتصاد والجيش الأميركيين. وستظل الحقيقة أن الولايات المتحدة الدولة الأقوى في العالم، وسيحتاج حلفاؤها إليها لمعاونتهم في مكافحة التهديدات المباشرة ومجموعة من التهديدات الجديدة والمتنامية أمام الأمن القومي، بما في ذلك الحرب الإلكترونية والتغييرات المناخية.
بيد أن هذا لا يعني أنه يمكن للولايات المتحدة أن تتجاهل تكاليف أخطائها في أفغانستان، وإنما يكشف لنا أن باستطاعتها التعافي بمرور الوقت.
من جانبه، رفع الرئيس بايدن شعار «أميركا عادت». ومن المهم من أجل المضي قدماً من هذه النقطة إظهار أن الولايات المتحدة لا تتخلى عن مسؤولياتها، ولا تتهاون في مواجهة التحديات. ولذلك؛ فإن واشنطن في حاجة اليوم إلى إعادة التأكيد على التزاماتها.
وبداية، يجب على الإدارة الأميركية استكمال عمليات الإجلاء من أفغانستان. ومن المهم هنا أن تنجح ليس فقط في إجلاء جميع الأميركيين، وإنما كذلك في إجلاء الأفغان الذين عملوا معها ويتهددهم اليوم الخطر. إننا ملزمون أخلاقياً بذلك تجاههم.
في الوقت الراهن، يخطط الرئيس بايدن للالتزام بالموعد النهائي المحدد للانسحاب اليوم 31 أغسطس (آب)، وقال عن ذلك إن كل يوم من العمليات في أفغانستان «يجلب خطراً إضافياً على قواتنا». وأثبت حادث مقتل جنود من مشاة البحرية الأميركية، الخميس الماضي، أنه على حق.
ومع ذلك، يتعيَّن على الإدارة التفكير في تمديد الموعد النهائي المقرر اليوم، رغم ما يحمله البقاء لفترة أطول من مخاطر حقيقية. ويتمحور واجب واشنطن الآن حول الإشراف على انسحاب آمن. ولا ينبغي أن يكون للموعد النهائي المصطنع الأسبقية على ذلك، أو أن يجرنا هذه الموعد المحدد سلفاً إلى الوقوع في أخطاء.
وفي واقع الأمر، تملك الولايات المتحدة وسائل للضغط على جماعة «طالبان» لقبول تمديد محدود لموعد الانسحاب، والسماح بعمليات الإجلاء المستمرة وحمايتها حتى بعد رحيل القوات الأميركية. وبمقدور واشنطن الاستمرار في فرض العزلة على «طالبان» سياسياً، والإبقاء على تجميد الأصول الأفغانية التي تقدر قيمتها بمليارات الدولارات والتي ترغب «طالبان» في السيطرة عليها وتحتاج إليها. وباستطاعة بايدن توضيح أن الولايات المتحدة سترحل عن أفغانستان، لكنها في حاجة إلى مزيد من الوقت. أما «طالبان»، فمن مصلحتها تيسير خروج الولايات المتحدة.
علاوة على ذلك، يجب أن تناقش الإدارة خطة طويلة الأجل للشرق الأوسط الكبير مع الحلفاء الأوروبيين وأصحاب المصلحة الإقليميين الآخرين. في الوقت ذاته، فإن هذا ليس الوقت المناسب لسحب القوات الأميركية إلى خارج المنطقة، بما في ذلك تلك المتمركزة في العراق وسوريا؛ ذلك أنه لا يمكن لواشنطن السماح لـ«داعش» أو التنظيمات المسلحة الأخرى بإعادة تجميع صفوفها. بدلاً عن ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تشرح بوضوح أهدافها في الشرق الأوسط، وما الذي ستكون مستعدة للقيام به لتحقيقها والأدوار التي تحتاج إليها لاضطلاع حلفائها بها.
أيضاً، يجب أن ترد الإدارة الأميركية على هجمات الأعداء أو تحديات الأعراف الدولية بقوة وحسم. ويجب أن تكون رسالتها للعالم واضحة: لا يمكن الإفلات من مهاجمة القوات الأميركية وحلفائها من دون عقاب. وتعد الغارة الانتقامية التي أمر بايدن بشنّها بطائرات من دون طيار ضد «داعش»، يوم الجمعة الماضي، ثأراً من تفجيرات المطار خطوة أولى جيدة. وثمة حاجة إلى مزيد من الإجراءات ضد أولئك الذين يهاجمون أو يهددون الولايات المتحدة، وسنحتاج إلى معاونة شركائنا للتأكيد على هذه الفكرة.
من السهل اليأس والاقتناع بفكرة أن الانسحاب الأميركي من أفغانستان قضى إلى الأبد على المصداقية الأميركية. الحقيقة، أنه لا يمكن إنكار أن الولايات المتحدة دفعت، ومن المرجح أن تستمر في دفع ثمن باهظ في أفغانستان.
ومع ذلك، يظل من الممكن أن تعوض ما فقدته، تماماً مثلما فعلت من قبل.
* خدمة «نيويورك تايمز»
8:2 دقيقه
TT
توقفوا عن المقولة الكارثية بأن مصداقية أميركا ستتراجع بعد أفغانستان
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة