بعد مرور ستة أعوام منذ أن وجدوا أنفسهم في طليعة الأزمة السياسية الأوروبية الناشئة عن تدفقات اللاجئين، أصبح آلاف اليونانيين الآن لاجئين في بلادهم.
فى 21 يوليو (تموز)، بدأ حريق صغير في غابات الشطر الشمالى من إيفيا، وهي جزيرة تقع على بعد 30 ميلاً شمال شرقي أثينا. خلال العشرين يوماً التالية - التي تجاوز معظمها 100 درجة فهرنهايت، أو 38 درجة مئوية - تحولت النيران إلى حريق هائل، انتشر من خط ساحلي في إيفيا إلى آخر وتصاعدت بوتيرة مذهلة من الدمار: 120 ألف فدان من الغابات المحروقة، ومئات الملايين من اليورو في صورة خسائر اقتصادية، وعمليات الإجلاء بالجملة لعشرات القرى والآلاف من سكان الجزر، مع مصرع شخصين.
الدمار، على الرغم من أنه صادم، فهو ليس جديداً؛ إذ تحترق مساحات شاسعة من اليونان في كل صيف تقريباً. ويقل دمار هذا العام مقارنة بصيف 2007، عندما تسببت النيران في جميع أنحاء بيلوبونيز وجنوب إيفيا في إحراق 670 ألف فدان من الغابات والأراضي الزراعية. وبالنسبة لحياة البشر، كان الأسوأ من ذلك في صيف 2018، عندما دُمرت بلدة ماتي الساحلية بواحدة من أعنف الحرائق في هذا القرن، حيث قُتل 102 من السكان.
ما يميز حرائق هذا الصيف هو تفسير الحكومة اليونانية لسبب اندلاعها. وكما قال رئيس الوزراء كيرياكوس ميتسوتاكيس في أوائل أغسطس (آب): «لقد وصلتنا أزمة المناخ». ولكن بعد عقود من الخصخصة والتقشف والإنفاق العسكري غير المحدود، فإن الدولة ليست في وضع يسمح لها بمكافحة الأزمة. وفي أماكن مثل إيفيا، تُرك اليونانيون إلى حد كبير ليدبروا أمورهم بأنفسهم.
إنها حكاية تحذيرية: في جميع أنحاء جنوب أوروبا وخارجها، ناضلت بلدان - من بينها تركيا وإيطاليا والجزائر - من أجل مكافحة الحرائق في الغابات والبراري، حيث قضت عقود من نقص الاستثمار على قدرة الدولة على حماية مواطنيها. وفي اليونان كما في أماكن أخرى، لكي تحظى الدولة بأي فرصة لتخفيف الكارثة المناخية، يجب عليها أن تعكس الكثير مما فعلته على مدى السنوات الثلاثين الماضية - والالتزام بالمهمة الشاقة والطويلة الأجل للاستثمار في المرونة والمثابرة البيئية، وإلا فإن أثينا، التي يغمرها الدخان، قد تصبح أول عاصمة غير قابلة للسكنى في أوروبا.
تعود جذور حرائق هذا الصيف في اليونان إلى فترة ما بعد الحرب، عندما أغرى التمدن السريع - الذي حفزته موجات واهية، وغالباً غير قانونية من البناء - عشرات الآلاف من سكان الريف بالانتقال إلى العاصمة أثينا. فقد استبدلت خطوط ساحلية بكاملها بالخرسانة من أجل التنمية السياحية، في حين أُفرغت مساحات شاسعة من الأراضي الريفية - التي طالما أشرف عليها الرعاة ومزارعو الزيتون بجهودهم في الزراعة - من كثير من الرعاة. والأدهى من ذلك، على نطاق عالمي، الأضرار البيئية الذي ارتكبتها الشركات اليونانية المالكة للسفن، التي جعل نقلها المستمر للهيدروكربونات، المقترن بقبضة خانقة على النظام السياسي في البلاد، من أكثر عوامل «التدنيس الكوكبي» غباء في العالم.
ومع ذلك، على الأقل حتى أواخر الثمانينات، لعبت الدولة دوراً كبيراً في تأمين الرفاهية العامة. لكن خلال العقد التالي، بدأ ذلك يتغير. وباعت الحكومة أجزاء من القطاعات العامة في البلاد من بينها الاتصالات والكهرباء والغاز بحثاً عن الأرباح الفورية. إن المسؤوليات التي كانت الدولة تتحملها ذات يوم صارت تقع على عاتق المصالح الخاصة، التي كانت الأولوية لديها جني الأرباح منها، أو للمواطنين العاديين، الذين تركوا لالتقاط البقايا.
لنتأمل قطاع مكافحة الحرائق في اليونان. على رغم أنه يخضع اسمياً لرعاية الدولة، فإنه يعاني من نقص الموارد: في التسعينات، نشرت الحكومة سنوياً قوة صغيرة من 4500 رجل إطفاء دائمين فقط - بمعاونة الآلاف من العمال الموسميين - للقضاء على الحرائق الصيفية. ولم تبذل سوى محاولة قليلة لتسخير الموارد اللازمة لرعاية الغابات على المدى الطويل، والتي قد تمنع اندلاع الحرائق في المقام الأول. وما يزيد المشكلة تفاقماً أن الإدارة الليبرالية قامت في عام 1998، في إطار محاولتها لزيادة لامركزية الحكومة، بفصل مهمة مكافحة الحرائق عن مهمة إدارة الغابات. ثم سقطت الجهود الرامية إلى احباط الحرائق في غياهب البيروقراطية.
أصبحت الأوضاع أسوأ كثيراً. وكان الانهيار المالي في عام 2008 والتقشف الشديد الذي أعقب ذلك - الذي أصرت عليه دول الاتحاد الأوروبي بإرسال قوات من رجال الإطفاء إلى أثينا - سببين في إرغام الحكومة اليونانية على العمل ضمن متطلبات الميزانية الصارمة. وفي ظل الحد الأدنى من السيطرة على مواردها المالية، نجحت في تأمين ميزانية مكافحة الحرائق بما يزيد على 100 مليون يورو، أو نحو 118 مليون دولار. وكانت النتيجة هجراً كبيراً. وفي الأسابيع الأخيرة، مع احتراق بيوت الناس في إيفيا، خيمت حالة من اليأس الخانق على السكان. وقال أحد القرويين: «الدولة غائبة»، وقال آخر: «كنا نحارب وحدنا».
هناك تطور ملحوظ. رغم القيود الشديدة التي تواجهها الحكومة اليونانية، فإنها تستطيع الحصول على مبالغ كبيرة، لكنها تختار استخدامها لأغراض أخرى. والأمر اللافت للنظر هو أن الحكومة تنفق مبالغ سخية في الدفاع عن مواطنيها ضد التهديد المفترض من تركيا، التي عانت بنفسها من حرائق هائلة هذا الصيف، حيث دمرت النيران ما لا يقل عن 160 ألف فدان من الأراضي المشجرة على طول الساحل الجنوبي المشبع بالسياح في البلاد.
إنه وضع غريب للغاية؛ ففي العام الماضي أنفقت الدولتان، وكل منهما عضو في منظمة حلف شمال الأطلسي، ما يزيد على 20 مليار يورو لتسليح نفسها، ليس ضد الضرر الواضح الناجم عن التغيرات المناخية، وإنما ضد بعضها لحد كبير. ولو قررت الحكومة اليونانية تحويل عُشر ميزانيتها العسكرية السنوية إلى حماية البيئة، فيمكنها إرسال نحو 45 ألف رجل إطفاء إضافي إلى أماكن مثل إيفيا في كل صيف.
والأمر الأكثر غرابة هو ما أسفر في السنوات الأخيرة على التعجيل بسباق التسلح. بعد اكتشاف مخزون الغاز الطبيعي تحت شرق البحر الأبيض المتوسط على مدى السنوات الـ15 الماضية، والتي تزعم تركيا وقوع أجزاء كبيرة منها داخل حدودها البحرية، صارت تشكل مصدراً جديداً لتغذية الصراع المستمر منذ عقود. والواقع أن هذه المفارقة تكاد تقترب من البشاعة.. لقد اضطر مواطنو دولتين إلى العمل كإطفائيين متطوعين بينما تحول حكوماتهم المليارات من عملة اليورو لمحاولات لتعزيز المطالبة بالشيء نفسه المسؤول عن إشعال النار في بلدانهم.
لا شك أن قدرة اليونان على حل أزمة المناخ ليست في محلها. ولكن الدولة التي تعيد تخصيص الموارد القائمة جذرياً وتضع نفسها على قدم وساق في مواجهة تهديد المناخ، وليس ضد جيرانها، من الممكن أن تعمل كقدوة لبقية منطقة البحر الأبيض المتوسط، وخارجها. والبديل - الأرض المحروقة، وارتفاع منسوب البحار، والقرى التي تم إخلاؤها - هو بالتأكيد هلاك بيّن.
* خدمة «نيويورك تايمز»