د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

الاختبار الكبير للفيدرالية الإثيوبية

هدأ الجدل الإقليمي والترقب الدولي الخاص لما عرف بالملء الثاني الأحادي للسد الإثيوبي بعد أن ارتفع فيضان النيل الأزرق، ولم تستطع إثيوبيا سوى حجز 3 مليارات متر مكعب من المياه، بدلاً من المستهدف المعلن عنه سابقاً والمقدر بـ13 مليار متر مكعب، ومن ثم لم تتأثر الكميات الواردة لكل من دولتي المصب على الأقل لهذا العام، في انتظار أن يحدث اختراق ما عبر التفاوض بشأن ملء السد وتشغيله بين كل من مصر والسودان وإثيوبيا.
في الوقت ذاته ارتفع ضجيج الحرب في إقليم تيغراي الإثيوبي ليشمل ولايات أخرى كالأرومو والعفر والأمهرا وغيرها. ومع دعوة رئيس الوزراء آبي أحمد، شباب البلاد وكل من يستطيع حمل السلاح للوقوف أمام جبهة تحرير تيغراي، والمصنفة إرهابية وفقاً للقانون، والتي استطاعت الصمود أمام القوات الفيدرالية حين دخلت أراضي الإقليم، ثم دحرتها عسكرياً وأجبرت بقاياها على الانسحاب ومعها الإدارة التي عيّنها رئيس الوزراء رغماً عن إرادة جبهة تيغراي الحاكمة، ما جعل أزمة الإقليم أبعد من مجرد عملية عسكرية سياسية دعائية تهدف لسيطرة المركز على إقليم مشاغب وجماعة إرهابية، لتصبح أزمة حياة أو موت للفيدرالية الإثيوبية المعاصرة.
الحرب في تيغراي منذ نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي نتجت عنها من المآسي الإنسانية، بدأت بعمليات إعدام فوري لعناصر جبهة تيغراي التي وقعت في أيدي القوات الفيدرالية في بداية الهجوم، ومرت على محاصرة الإقليم وتورط مجموعات من الجيش الفيدرالي في انتهاكات إنسانية جسيمة، واستدعاء أديس أبابا لجيش الجارة إريتريا لمؤازرة القوات الفيدرالية بغية إخضاع الإقليم المشاغب، ولجوء آلاف التيغرانيين إلى السودان طلباً للأمن من ناحية وضغطاً غير مقصود على الوضع السوداني من ناحية أخرى، واستخدام المركز سلاح التجويع المتعمد لسكان الإقليم عبر منع مرور المساعدات الإنسانية، وفقاً لتأكيدات كثير من المنظمات الطوعية، ومديرة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، والتسبب في أزمة جوع لأكثر من 400 ألف نسمة بعد استنفاد المخزون الغذائي.
ورغم التداعيات السابقة، وكلها ذات طابع سلبي بالنسبة لأديس أبابا ولنمط الفيدرالية الإثيوبية، فإن قيادة البلاد ما زالت تصرُّ على هدفها الخاص بدحر جبهة تحرير تيغراي. ولكونها جماعة إرهابية وفقاً للقانون الإثيوبي، فإن فكرة المفاوضات ومبدأ الحل السلمي والتخلي عن الحشد والتعبئة لجزء من الشعب ضد جزء آخر، تبدو غائبة تماماً عن قاموس القيادة الإثيوبية، بما في ذلك شعار «حلول أفريقية للأزمات الأفريقية» الذي تتمسك به أديس أبابا أسلوباً وحيداً لأزمة السد مع دولتي المصب. ومع استبعاد هذا المبدأ تحديداً كان طبيعياً أن ترفض أديس أبابا محاولات رئيس الوزراء السوداني بوصفه رئيساً لمجموعة «الإيجاد» طرح مبادرة لجمع المركز مع جبهة تحرير تيغراي كأسلوب سلمي برعاية أفريقية، لإنهاء الأزمة التي تتطور في اتجاهات خطيرة لن تسلم منها إثيوبيا أو محيطها الإقليمي.
الحجة التي استخدمتها أديس أبابا في رفض المسعى السوداني الأفريقي ركزت على غياب الثقة بالخرطوم، نظراً لوجود طرف في بنية سلطتها غير محايد ويحتل أراضي إثيوبية وفقاً لسكرتيرة رئيس الوزراء، والتي لمَّحت كمناورة دعائية إلى أن تحرير ما تعده أرضاً تخص بلادها في إقليم الفشقة، هو شرط مسبق قبل أي تدخل سوداني أفريقي بشأن الحرب في تيغراي. وهنا تداخلت وتشابكت عدة عناصر أخرى ذات طابع إقليمي مع أزمة الحرب في تيغراي، التي تصنف كأزمة داخلية بالأساس، مما يزيد من تعقيد الأمر. وبالقطع فإنَّ هذه الحجة التي ردت عليها وزارة الخارجية السودانية بقوة تجسّد طريقة التفكير السائدة في أديس أبابا، حيث الاستناد إلى أكاذيب تاريخية، وإثارة الانقسامات وتفتيت السلطة في الخرطوم، والتشكيك في الثقة المتبادلة بين المكونين العسكري والمدني السياسي، واتهام المكون العسكري السوداني صراحةً بأنه يتحرك كتابع لقوة إقليمية، يُفهم أنها مصر، وأنه يتسبب في خلق أزمة مع إثيوبيا التي لا تتورع بدورها عن الرد عليها بإثارة أزمة لدى السودان.
تحركات رئيس الوزراء آبي أحمد داخلياً وخارجياً يمكن تلخيصها في عدة مسارات؛ أولها وأكثرها أهمية وخطورة هي عمليات التعبئة متعددة المستويات في الداخل، والتي من شأنها أن تزيد من التوتر بين العرقيات الرئيسية المكونة للفيدرالية الإثيوبية، ومن ثم تعزيز الشروخ المجتمعية، وإفقاد المجتمع أحد أهم شروط تماسكه كأساس لبقاء الفيدرالية ونمط حكم يرتضيه الجميع. وثانيها العمل على استجلاب دعم خارجي سياسي غير أفريقي لدعم الحرب في الداخل، وتعد تركيا نقطة انطلاق رئيسية في هذه السياسة، حيث تتوافق إرادتا أنقرة وأديس أبابا على تعميق التعاون بينهما في مجالات متعددة، من بينها التعاون العسكري، والذي شكل بُعداً مهماً في زيارة آبي أحمد لأنقرة الأسبوع الماضي، حيث اتفق على تقديم دعم عسكري تركي للقوات الفيدرالية يتضمن أسلحة ومعدات متنوعة، من بينها طائرات مسيرة ذات طابع هجومي، سيكون لها دور مهم في الحرب ضد جبهة تحرير تيغراي وفقاً لما تأمله أديس أبابا.
ثالثاً، عدم التجاوب مع مهمة المبعوث الأميركي للقرن الأفريقي، والتي تضع أولوية قصوى لإنهاء الحرب في تيغراي وحماية إثيوبيا من التفكك أو التورط في حرب أهلية تؤثر حتماً على مجمل أوضاع القرن الأفريقي والمصالح الأميركية فيه.
وينطلق اللاتجاوب الإثيوبي من قناعة بأن الولايات المتحدة في ظل إدارة الرئيس بايدن ترنو إلى الضغط على إثيوبيا لصالح قوى إقليمية غير صديقة أو تريد الشر للبلاد، ناهيك بأن البيت الأبيض لا يتفهم الموقف الإثيوبي من مفاوضات السد، ويميل لتأييد الموقفين المصري والسوداني على حساب ما تراه إثيوبيا الحقوق السيادية المائية لها وضرورتها التنموية. وترى أديس أبابا أن واشنطن تدعم جبهة تحرير تيغراي على حساب قوة المركز، وأن إعلامها يتعمد تشويه مواقف وسياسات رئيس الوزراء ويبالغ فيما جرى في إقليم تيغراي. أما العقوبات الرمزية التي قررتها الولايات المتحدة ضد المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان في تيغراي، ووقف بعض المساعدات التنموية، فوسيلة ضغط مرفوضة تستدعي مراجعة العلاقة مع واشنطن.
هذه الأسانيد الإثيوبية والتي تضع عبء الأزمات الهيكلية التي تعاني منها البلاد على عاتق الغير، تسهم في مزيد من عزلة إثيوبيا ومزيد من تعقيد الأوضاع الداخلية إلى الحد الذي يجعل خيار الحرب قراراً لا بديل له، في الوقت الذي يعاني فيه الجيش الفيدرالي قدراً كبيراً من التفكك الداخلي مهنياً وتنظيمياً. والنتيجة الأكثر ترجيحاً في ظل بيئة متوترة وفاقدة للرشد السياسي انزلاق البلاد إلى مواجهات أهلية وعرقية وضعف متتالٍ للحكومة المركزية، وتشكيك في جدوى فيدرالية لا تفيد سوى البعض بينما تعاني الأكثرية فقدان الأمن والأمل في دولة مستقرة.