سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

هذه اليد الخفية!

كان آدم سميث يقول في نهاية القرن الثامن عشر، إن «يداً خفية» تحرك الاقتصاد في مجمله في العالم، وإن هذه اليد موجودة ولكنها غير مرئية!
أما اليد التي قصدها فليست في الحقيقة يداً واحدة، ولكنها يدي أنا ويدك أنت ويدها هي، أي أنها تمثل مجموع أيادي الجميع في كل مكان. ومن الحركة الاقتصادية العامة لكل هذه الأيادي معاً تتحقق مصلحة كل شخص على حدة، ثم تتحقق في الوقت نفسه مصلحة المجتمع كله في عمومه، وربما لهذا السبب أطلق عليها سميث اسم: اليد الخفية!
والمعنى أنك وأنت تنتج في مصنع تملكه مثلاً، إنما تفعل ذلك من أجل أن تحصل على أعلى أرباح ممكنة، ولكنك لا تدري في اللحظة نفسها أن ما تحققه لنفسك فيه نصيب للآخرين في مجموعهم، لأن اقتصاد أي بلد هو في النهاية حاصل جمع ثروات الأفراد في هذا البلد!
وأنت عندما تذهب لشراء شيء محدد تحتاجه، فإن ذلك يحقق مصلحة لك في حدودك، ولكنك تحقق في الوقت نفسه مصلحة للبائع الذي تشتري حاجتك منه، فالمصلحة مشتركة بينكما، ثم هي مشتركة كذلك مع كل شخص آخر يشتري حاجته مثلك، ومن بعد ذلك على مستوى كل بائع آخر بخلاف البائع الذي باع لك... وهكذا وهكذا في كل الحالات على طول المجتمع وعرضه أيضاً!
وتستطيع أن تقيس الأمور كلها على هذا الأساس، وأن تتطلع إليها على هذا المعيار، لتكتشف الآن كما اكتشف سميث قبل نحو قرنين من الزمان، أن مجتمعك على المستوى الاقتصادي لا يحرك نفسه، ولكنّ يداً لا نراها تحركه من وراء ستار!
هذا عن دنيا الاقتصاد التي كان آدم سميث يتطلع إليها، وكان يسعى إلى فهم دقائقها التي لا تبدو أمامنا، فجاءت هذه النظرية من جانبه لتفسر الأحوال الاقتصادية من حولنا، وهي نظرية تحتوي على كل ما يجعلها وجيهة في العموم وفي التفاصيل!
فماذا عن عالم فيروس «كورونا» الذي حيّر العالم ولا يزال؟!... هل يمكن أن ينطبق عليه ما انطبق من قبل على اقتصادات العالم ولا يزال؟!... وهل يمكن أن تنطوي دنيا «كورونا» هي الأخرى على يد خفية تحركها، كما هي الحال في خريطة الاقتصاد على الأرض؟!
هذه كلها أسئلة واجبة بمثل ما هي مشروعة، وقد قيل على الدوام إن الطريقة التي يجري بها طرح أي سؤال هي في الغالب نصف الطريق إلى الإجابة، وهي التي تقودنا إلى فهم ما قد يستغلق حولنا من قضايا، ولا فارق في الحقيقة بين أن تكون هذه القضية واحدة من بين قضايا علم الاقتصاد، مثل القضية التي تناولها سميث في وقته، أو تكون قضية من بين قضايا علم الفيروسات، مثل القضية التي تشغل كل إنسان منذ أن فاجأنا هذا الوباء نهايات السنة قبل الماضية!
ولا أعرف لماذا يراودني إحساس منذ بدء هجوم هذا الفيروس، أن يداً خفية في عالمنا تحركه، وأنها تحرص وهي تحركه على أن يظل يتحرك بيننا من دون توقف، وهذا ربما هو ما يلاحظه كل متابع لحركة «كورونا» منذ كان له وجود على ظهر الكوكب!
وأظن أنه إحساس لا يخصني وحدي، كما أظن أنه حاضر لدى آخرين كثيرين بامتداد العالم، ممن يتابعون حركة الوباء منذ بدايته، ولا يعثرون على تفسير مقنع لتمدده مرة وانحساره مرة أخرى!
إن العالم يبدو مع «كورونا» وكأنه البطل سيزيف في الأسطورة اليونانية الشهيرة، ففيها كانت الأقدار قد حكمت عليه بأن يظل يدفع صخرة إلى أعلى الجبل، وكان كلما بلغ بها ذروة المكان الذي يجب أن يصل بها إليه تدحرجت منه إلى السفح، فعاد يدفعها من جديد بلا نهاية قريبة لعذابه تلوح في الأفق المنظور!
هذا هو حال العالم منذ جاءه ابتلاء الفيروس، فكلما بدا أننا في الطريق إلى الحياة العادية التي عرفناها من قبل، عدنا في لحظات إلى المربع الأول، وكلما ظهر أن قبضة الوباء ترتخي فوجئنا بأنها تعود لتشتد كما كانت في بدايتها، فنرجع إلى النقطة صفر أو ما هو قريب منها!
وحتى عندما جرى التوصل إلى اللقاحات المتنوعة التي تتعامل معه، تبين لنا في مرحلة من المراحل أنها ليست قادرة إلى الآن على حسم المعركة مع هذا الضيف اللعين، وتبين أن جرعة واحدة ربما لا تكفي من نوع اللقاح الذي تكفيك منه جرعة لا أكثر، وهو جونسون أند جونسون على وجه التحديد، وأن جرعتين لا تكفيان من باقي اللقاحات، وأنه لا بد من جرعة ثانية في الحالة الأولى، وجرعة ثالثة في الحالة الثانية!
وقد وصفوا الجرعة الطارئة بأنها جرعة معززة، ولم يكن هذا المسمى دقيقاً في حقيقته، لأن مسماها الذي يطابق واقع الحال أنها جرعة محيرة، ولأن الحديث عنها كان ولا يزال نوعاً من اللعب بأعصاب الناس في العالم، ونوعاً من إثارة شتى أنواع الحيرة في نفوس الجميع تقريباً!
وما يعزز من الاعتقاد في انتقال نظرية اليد الخفية من مجال الاقتصاد إلى ملف هذا الفيروس على اتساعه، أن ردود فعل الصين التي حامت حولها الاتهامات في شأن انطلاق «كورونا» من فوق أرضها، كانت ولا تزال تثير الكثير من علامات الاستفهام!
والحديث عن اليد الخفية في موضوع «كورونا» ليس حديثاً من أحاديث نظرية المؤامرة التي يتردد الكلام عنها من وقت إلى آخر، فنظرية المؤامرة تقتضي بطبيعتها تآمر طرف في العالم على طرف آخر، وهذا بطبيعته وارد في عالمنا ومفهوم أيضاً!
ولكن في شأن اليد الخفية يبدو الأمر وكأن طرفاً في مكان ما لا نعرفه، يكيد للعالم كله لا لمجرد طرف فيه هنا أو هناك، وهذا في الحقيقة هو مبعث الحيرة لدى كل واحد يحاول فهم دقائق ملف «كورونا» من خلال وقائعه التي نراها أمامنا بالعين المجردة!
وبالطبع، فإن اليد الخفية في حالة الوباء الذي لا يكاد يتوارى حتى يعود، ليست خفية بالكامل، بمثل ما أن اليد الخفية في الاقتصاد ليست هي الأخرى خفية تماماً، ففي مقدورك أن ترى يدك وهي تتحرك لتنتج، أو تشتري، أو تبيع، فتساهم بالتالي مع الأيادي الأخرى في تجسيد ما كان آدم سميث يقصده وهو يتحدث عن نظريته الاقتصادية في حينها!
ولن يختلف الحال مع هذا الفيروس المحير، لأن في مقدورنا أن نتخيل اليد الخفية في كل مرحلة من مراحله، إذا تعذر علينا أن نراها في حركتها، أو نرى جانبا من هذه الحركة على الأقل، ولن تكون اليد الخفية في ملف «كورونا» سوى الأطراف التي يهمها بقاء الانشغال به أطول فترة ممكنة، لأن في هذا البقاء ما يحقق صالح أطراف كهذه بشكل من الأشكال!
وإذا قالت شركات التجارة الإلكترونية على سبيل المثال، إنها ليست من هذه الأطراف، فسوف لا تكون صادقة مع نفسها، علاوة على أن تكون صادقة معنا نحن الذين عانينا ونعاني تداعيات الوباء، ولا بد أن نظرة سريعة على مبيعات هذه الشركات، ثم على أرباحها بالتالي في زمن الفيروس، سوف يشير لنا إلى أن تمدده كلما أوشك على الرحيل ليس من المصادفات!
ليس هذا تشكيكاً في حقيقة وجود الفيروس، ولا هو تقليلاً من حقيقة خطورته، ولكنه بحث عن الأسباب غير الواضحة التي تجعله كلما بدا قريباً من الرحيل، عاد يطل برأسه من جديد، وفي بعض الأحيان يعود أقوى مما كان!