يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

فيتنامستان: براغماتية الانسحاب أم أخلاقية الوعود!

استسلمت الحكومة الأفغانية لمقاتلي حركة «طالبان» أمام مرأى العالم، بما فيه الولايات المتحدة، التي حرصت على أن تفاوض حتى الرمق الأخير لضمان سلامة ترحيل ما تبقى من قواتها من دون حتى تلويحة أمل أو اعتذار للشعب الأفغاني الذي وعدته بالتعددية والديمقراطية والقيم الغربية دون أن يحظى بالحد الأدنى طوال عقود من كرامة العيش والاستقرار والبنية التحتية لبلد أصبح على ارتباط بالعنف فيما يشبه «العود الأبدي».
وبإزاء الحكومة قرر الرئيس أشرف غني، أو أُجبر لا فرق في اختيار الكلمات في مواقف كهذه، على التنحي رغم كل اقتباساته وكلماته وخطبه التي كان يحاول أن يبدو فيها متماسكاً وفي داخله يدرك أن استنبات الديمقراطية وشعارات التعددية في أرض لا تملك مقومات ثقافتها وصيرورتها التاريخية سرعان ما تذروها الرياح، ولا يشفع له كتابه الذي ألّفه مع كلير لوكهارت بعنوان «إصلاح الدولة الفاشلة»؛ إذ لم يحصد إلا فشل المقاربة الأميركية ذاتها للحالة الأفغانية منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) وما قبلها، التي يحرص مقاتلو «طالبان» في رمزية هائلة على أن يستعيدوا كامل الأراضي ويسيطروا عليها قبل حلول ذكراها.
الأفكار الوردية التي تشربها الرئيس أشرف غني كطالب متفوق في الدراسات الأكاديمية بأرقى الجامعات بالولايات المتحدة، لم تصمد أمام رصاصات «طالبان» وحشدهم الذي بدا وكأن الشعب الأفغاني سلم لهم كل الوجهات والمناطق طواعية ومن دون مقاومة، مجسّداً يأساً مقطراً وممضاً، واللافت أن غني الذي درس الأنثروبولوجيا الثقافية ومن ورائه الخطاب الغربي في مقاربة ملفات المنطقة لم يقرأوا بعناية مكونات الشعب الأفغاني وتحالفاته وأنه كان بحاجة إلى بناء دولة ومؤسسات أكثر من مناشط احتفالية عن تحسن وضعية المرأة أو نقل حي للعب الغولف!
وفي التفاصيل للتاريخ الحي الذي تسطره «طالبان» لحظة بلحظة في استعادة لتاريخ فيتنام لكن بمشاهد إضافية، كان سقوط مزار شريف المدينة المحصنة يوم السبت إيذاناً بفشل المشروع الأميركي في البلاد، حيث سيطرت الحركة المتطرفة التي ستتولى زمام الحكم على جميع المراكز الحدودية بانتظار ابتلاع مطار كابل وبعض المناطق التي تشكل رمزية الحماية الأميركية، فيما تهرع كل الدول إلى إنقاذ رعاياها وبعثاتها الدبلوماسية، فيما تنبعث خيوط الدخان من سطح سفارة الولايات المتحدة وتناقلت وكالات الأنباء ومراكز البحث عمليات إتلاف الوثائق السرية ونشر ثلاثة آلاف جندي في مطار كابل لإجلاء الدبلوماسيين.
من المهم في التداول السياسي استخدام أدوات ونظرية «التلقي» لفهم التأثير الهائل لما حدث، الجميع يعيش حالة الصدمة على وسائل التواصل الاجتماعي وتعليقات المحللين لما يحدث لحظة بلحظة والطائرات تهبط للإجلاء، بينما يتسارع المواطنون الأفغان للتشبث بأجنحتها فراراً من الأوضاع المترقبة لحكم «طالبان»، معظم التعليقات جاءت لمقارنة ما حدث منذ عقود في فيتنام إبان نهاية الحرب وهبوط الطائرات لإجلاء الموظفين من سايغون بفيتنام وما حدث إثر ذلك من دخول القوى الاشتراكية وتوحيد البلاد بعد حرب طويلة، وهو ما يظنه المراقبون من الإشارات الطويلة لترقب دول الاستثمار في الأنقاض من روسيا إلى الصين وحتى محاولات ملالي طهران في بعث رسائل إيجابية إلى قيادات «طالبان» لتذويب الفوارق الطائفية.
ورغم حساسية إدارة بايدن والرئيس من مقارنة ما يحدث بانهيار جنوب فيتنام عام 1975 بعد انسحاب القوات البرية الأميركية، فإن ما تخبر به الصورة والمقارنة التي يقوم بها الهواة في إنتاج مقاطع وصور بصرية للمقارنة تقول الكثير عن حماسة الجماهير العريضة ضد فشل مشروع الشعارات الغربي وليس بالضرورة مناكفة للقيم أو الديمقراطية ولو كانت شكلانية، ومع وعود مساحة التوطين للفارين من حكم «طالبان»، إلا أن هلع الناس في المطارات للتمسك بطائرات القوات المغادرة وصولاً إلى انبعاث حماسة التيارات الجهادية على شبكة الإنترنت وتصدير خطابات النصر والهزيمة في مقابل محاولة التيارات المضادة اللعب على نظرية المؤامرة وتصوير أن ثمة صفقة بين الإدارة الأميركية و«طالبان» كل هذا لا يغني عن قراءات عميقة لما يحدث، لأن مرحلة سقوط كابل يدل على أن كل شيء في المقاربة الأميركية الخارجية لوضع أفغانستان والدول المشابهة يسير في الاتجاه الخاطئ تماماً، كما أنه سيلقي بظلاله على الدول المتربصة للرحيل بهذه الطريقة لإعادة بناء مشاريع الهيمنة والسيطرة حتى لو كان الخروج الأميركي تم انتصاراً للمصلحة الشخصية الضيقة وببراغماتية تشبه مسألة التفوق العرقي لكن بطريقة مقلوبة وهو تكلفة الأثمان للدماء الزرقاء.
الفارق كبير أيضاً في مقاربة أفغانستان، فإن شراسة مقاتلي الفيتكونغ الفيتناميين لا تقارن بوحشية ما يمكن أن تقدمه عليه الجماعات العقائدية المدفوعة بمسألة إعادة مسألة الخلافة وتجنيد المجاهدين مجدداً، كما أن حكم قبضتها على الداخل وتعميم أسلوب حياة متطرف فارق مهم بين انتصار المشروع الأصولي وليس تفوق حرب العصابات والقوى المناهضة للغرب.
المناهضون لـ«طالبان» في داخل أفغانستان هم أكثر من يشعر بالخيانة وأنهم ضحية انسحاب براغماتي وشعارات تم بيع الوهم عبرها للشعب لسنوات طويلة. المؤكد أن ثمة أزمة حقيقية في مقاربة الولايات المتحدة والقوى الغربية في التعامل مع المناطق المنكوبة بالصراعات الأهلية والإرهاب والحروب وتجارة الأسلحة وانعدام الأمن من قبل المؤسسات الدولية والعالم، الذي يؤسس لفكرة العود الأبدي بإهمال الأسباب التي تصنع الإرهاب المستدام، من خلال التعامل بواقعية مع أمراء الحرب والاتفاقات السياسية لتكريس واقع الحكومات التي يتم إحلالها وعزلها في عواصم محمية ببعض القوات الدولية، وليس عبر برامج تغيير لسلوك وخطاب وثقافة العنف والإرهاب السائدة، وخلق فرص اقتصادية حقيقية، وتقديم بدائل ملموسة للناس، خصوصاً الأجيال الجديدة التي تجد في لعنة الإرهاب مستقبلاً محتملاً أكثر من قتامة الواقع في ظل البطالة وغياب الفرص.
مضت عقود من الصراع في أفغانستان، وما زالت البلاد تراوح في نقطة الصفر من دون أن تحظى بالسلام والأمن، رغم تعاقب الاستراتيجيات الدولية في محاولة للخروج من الأزمة، لكن الأمر يراوح مكانه بعد فشل إيجاد نخبة سياسية جديدة تتجاوز إرث الدم والدمار بعد كل هذه السنوات وتغلغل «طالبان» كبديل من أمراء الحرب الجدد لحكومة مركزية تمثل نماذج مكررة لفشل الديمقراطية والتعددية الشكلانية التي لا تسمن إلا من جوع الشعارات الجوفاء ولو كانت بغطاء دولي احتفالي!