لحسن حداد
برلماني ووزير مغربي سابق
TT

الملك محمد السادس واليد الممدودة للجزائر

في خطاب وجّهه للشعب يوم 31 يوليو (تموز) بمناسبة الذكرى الثانية والعشرين لاعتلائه عرش المملكة المغربية، وجّه الملك محمد السادس، نداءً قوياً للجارة الجزائر لدفن الماضي وتجاوز أحقاده والسعي سوياً مع المغرب لبناء مستقبل مشترك يعود بالنفع العميم على البلدين والشعبين وعلى شعوب شمال أفريقيا قاطبة.
خطاب سِمَته الأساسية هو أنه صريح وصادق وصادر من القلب؛ نداء من أجل تغليب لغة العقل ومنطق الحكمة وحسن الجوار، ولا ينطوي على أي عتاب أو محاسبة للأفعال والنوايا، بل إنه يفوح بروح الإنسانية ونبل المقاصد وسمو الأقدار.
نداء الملك محمد السادس هو صرخة من أجل استرجاع علاقات الأخوة والمحبة والماضي المشترك الذي يجمع الشعبين الشقيقين اللذين فرق بينهما الاستعمار وكذا طموحات ما بعد الاستقلال. إذا فصّلنا في هذا النداء من الناحية التاريخية، نجد أن المصير المشترك للشعبين طبع وجودهما منذ عقود بل وقرون. حين دخل الاستعمار الفرنسي الجزائر سنة 1830 هبّ المغرب لنصرة الجزائريين وخاض معركة إيسلي ضد الجيوش الفرنسية سنة 1844، وانهزم وبقي يؤدي مستحقات الحرب لعقود من الزمن.
وحين اندلعت حرب التحرير في الجزائر منتصف عقد الخمسينات من القرن الماضي ساند المغرب الثورة ودعَمها مادياً وسياسياً وشعبياً ورفض الحديث مع فرنسا حول ترسيم الحدود إلى حين استقلال الجزائر. بل إن قادة التحرير الجزائريين كانوا يعيشون في وجدة على الحدود، قريباً من هموم الثورة. في 22 أكتوبر (تشرين الأول) 1956 غادر قادة جبهة التحرير الجزائرية (محمد خيضر، مصطفى لشرف، الحسين آيت أحمد، محمد بوضياف، وأحمد بنبلة) المغرب، بعد لقائهم مع الملك الراحل محمد الخامس، على متن طائرة مغربية قاصدين تونس فاعترضتهم القوات الجوية الفرنسية وأجبرتهم على النزول بالجزائر العاصمة. قطع المغرب علاقاته مع فرنسا على أثر هذا الحادث، واندلعت مظاهرات ضد الفرنسيين في المغرب ذهب ضحيتها نحو سبعين فرنسياً كانوا ما زالوا مقيمين بالمغرب الحديث الاستقلال.
روابط المحبة بين الشعبين تظهر في مباريات كرة القدم حين يظهر المغاربة والجزائريون يحملون عَلمَي البلدين ويرددون شعارات الإخاء والمحبة، رغم التوترات الدبلوماسية والسياسية.
الاختلاط في الزواج بين المغاربة والجزائريين خصوصاً في بلدان المهجر هو أمر طبيعي نظراً لتقارب الثقافة واللغة والعادات والتقاليد.
كما أن المغاربة والجزائريين يلبسون الملابس التقليدية نفسها، ويأكلون الأكلات نفسها، ويرقصون على النغمات نفسها، ويضحكون على النكت والمستملحات نفسها.
هذا الزخم من التداخل التاريخي والثقافي والشعبي هو الذي نهل منه ملك المغرب للتعبير عن أمل صادق في تجاوز خلافات الماضي، والتدشين لصفحة جديدة في العلاقات بين البلدين. وكأني بملك المغرب يقول للإخوة في الجزائر: قَدَرُنا واحد، وتاريخنا مشترك، وثقافتنا واحدة، وشعبانا إخوة وأحباب وعائلات («خاوا خاوا» كما يحلو للجزائريين تسمية العلاقة بينهم وبين المغاربة)، تعالوا نبني معاً مستقبلاً يرقى لطموحات الشعبين في الكرامة والاستقرار والأمن والطمأنينة.
لهذا ركز العاهل المغربي على فتح الحدود المغلقة بين البلدين منذ 1994، على خلفية حادث الهجوم المسلح على فندق «أطلس أسني» بمراكش.
في 24 أغسطس (آب) 1994 قرر المغرب فرض التأشيرات على الجزائريين القادمين إلى المغرب، فردت الجزائر بإغلاق الحدود البرية، التي بقيت موصدة على مدى السنوات السبع والعشرين الماضية.
وردّاً على من يقول إن فتح الحدود سيجر الويلات على الجزائر لأن المغرب يعاني من الفقر ويعيش على التهريب والمخدرات، قال الملك محمد السادس «بإمكان أي واحد أن يتأكد من عدم صحة هذه الادعاءات، لا سيما أن هناك جالية جزائرية تعيش في بلادنا، وهناك جزائريون من أوروبا، ومن داخل الجزائر، يزورون المغرب، ويعرفون حقيقة الأمور». الأفكار الجاهزة حول البلدين نسجتها وسائل الإعلام بطريقة لا مسؤولة ولكن واقع البلدين يرتفع عن ذلك؛ لأن كلاً من البلدين يعرف نهضة بادية للعيان وجهوداً حثيثة للتحديث والعصرنة لا ينكرها إلا من لا يريد أن يرى. لهذا يخلص الملك محمد السادس إلى أن الشر لن يأتي للجزائر من المغرب، كما لا يظن أن العكس صحيح. لأن علاقات الود والأخوة والتاريخ المشترك تحول دون ذلك. فكيف لبلدين يعتبرهما الملك محمد السادس «توأماً» أن يؤذيا بعضهما بعضاً أو يسيئا لبعضهما بعضاً.
يقول ملك المغرب، أن لا الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة ولا الحالي عبد المجيد تبون، ولا ملك المغرب نفسه مسؤولون على إغلاق الحدود، ولكن من مسؤولية القادة الحاليين «أمام الله والتاريخ والشعبين» الشقيقين، أن يتحلوا بالحكمة اللازمة لفتح الحدود والسماح للأشخاص والبضائع ورؤوس الأموال الانتقال بحرية؛ هذا حق من حقوق الإنسان، يقول العاهل المغربي، وكذا هدف من أهداف معاهدة اتحاد المغرب العربي الموقعة في مراكش سنة 1989 بين ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا.
صحيح أن كلفة عدم توحيد بلدان شمال أفريقيا تقدر باثنين في المائة من الناتج الداخلي لبلدان المنطقة. وأي تقارب ما بين المغرب والجزائر سيكون له تأثير إيجابي على اقتصاديات المنطقة وعلى الأمن في الساحل والصحراء. فالجزائر قوية بنفطها وشساعة أراضيها وقوة مؤسساتها المصرفية والمالية، والمغرب يتوفر على اقتصاد متنوع قوامه الصناعة والفلاحة والسياحة، وأي تكامل بين البلدين سيعطي دفعة قوية لبناء فضاء شاسع من التعاون والتداخل والتكامل والمبادلات التجارية والتنقل الحر للسلع والأشخاص.
كما أن القدرات العسكرية والأمنية التي يتوفر عليها البلدان ستتيح لهما إمكانية محاربة المشاكل الحقيقية التي حصرها الملك محمد السادس في الجريمة المنظمة، وتهريب البشر والهجرة السرية والإرهاب. فأي تنسيق بين البلدين على المستوى الأمني سيكون له وقع إيجابي على الاستقرار في بلدان الساحل والصحراء. يمكن للمغرب والجزائر أن يلعبا الدور نفسه الذي قامت به فرنسا وألمانيا لتوحيد أوروبا وإعادة إعمارها ودمقرطتها فيما بعد الحرب العالمية الثانية، شريطة ألا يخْلُف البلدان وقادتهما الموعد مع التاريخ ومع القدر المشترك، قَدَر الجغرافيا والثقافة المشتركة والماضي المشترك.. فهل سيتحقق الحلم يوماً ما؟