هال براندز
كاتب رأي من خدمة «بلومبيرغ» وأستاذ في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة «جونز هوبكنز» الأميركية
TT

«سور الصين الفولاذي العظيم» ليس مجرد حديث فارغ

يا ترى كيف سيبدو الحال إذا شرعت دولة ما في الاستعداد لتحطيم فترة السلام الطويلة بين القوى الكبرى التي تمتعت بها البشرية منذ عام 1945؟ ربما سيبدو شبيهاً للغاية بالضوضاء المشؤومة الصادرة عن بكين اليوم.
الملاحظ أن التصريحات الصادرة في الفترة الأخيرة عن الحزب الشيوعي الصيني تحمل طابعاً عسكرياً لافتاً. على سبيل المثال، خلال احتفالات الحزب بالذكرى المئوية لتأسيسه، حذّر الرئيس شي جينبينغ من أن أي شخص سيحاول إعاقة مسيرة «التجديد الوطني» - تعبير لطيف يقصد منه صعود الصين إلى قمة الترتيب الهرمي العالمي للدول - سيجد «رأسه مغطى بالدماء في مواجهة سور فولاذي عظيم». في منتصف يوليو (تموز)، أطلق معلقون ينتمون إلى جيش التحرير الشعبي فيديو يتوعدون خلاله بحرق اليابان بالأسلحة النووية حال تدخلها في هجوم صيني ضد تايوان.
كما نشرت مصادر صينية أخرى فيديوهات محاكاة تصور إطلاق سيل من الصواريخ المدمرة ضد تايوان والقواعد العسكرية الأميركية في غرب المحيط الهادئ. ويأتي كل ذلك في خضم سلسلة مستمرة من الهجوم اللفظي من جانب الدبلوماسيين الصينيين ضد أي دولة تقريباً تثير غضب بكين.
جدير بالذكر في هذا الصدد أن الصين كانت تشتهر من قبل، حسب تعبير زعيم الحزب الشيوعي الراحل دينغ زياوبينغ، بإخفائها قدراتها والوقوف متأهبة في هدوء. اليوم، تتفاخر الصين بثمار العقود التي قضتها في الحشد العسكري، وفي الوقت ذاته تروج لطموحاتها الانتقامية.
والآن، ما الذي ينبغي عمله حيال هذه التهديدات؟ في الواقع، هناك الكثير من التفسيرات المحتملة. ربما يتعمد النظام الصيني اتخاذ هذه المواقف لأغراض داخلية بحتة، خاصة أن شي يعمد باستمرار إلى استغلال المشاعر الوطنية كذريعة آيديولوجية لحكمه القمعي الذي يحمل طابعاً شخصياً. ومن الممكن أن تكون مثل هذه التصرفات جزءاً من حرب نفسية تسعى لتخويف الخصوم من خلال جعل الصين تبدو قوة قاسية ويصعب التنبؤ بتصرفاتها. وربما يكون مسؤولو الحزب الشيوعي ووسائل الإعلام يسعون فحسب لمحاكاة ما يسمعونه من شي نفسه والقيادات الأخرى في بكين.
من الصعب طرح إجابة حاسمة في هذا الصدد، نظراً لقلة المعلومات المتوافرة لدى واشنطن حول عملية صنع القرار داخل الصين هذه الأيام. في هذا الصدد، شرح كيرت كامبل، رئيس شؤون السياسات الآسيوية في إدارة الرئيس جو بايدن، أن الزعيم الصيني «يكاد يكون قد قضى تماماً على 40 عاماً تقريباً... من القيادة الجماعية» داخل الصين. واليوم، لا تتوافر لدى الولايات المتحدة معلومات تذكر حول إلى مَن يتحدث شي، ناهيك عما يدور في ذهنه. وعليه، يقتضي الحذر، النظر إلى تفسير آخر محتمل أكثر إثارة للقلق - أن بكين تعني حقاً ما تقوله.
منذ بدء جائحة فيروس «كوفيد – 19» على الأقل، بدت الصين وكأنها دولة تبحث عن عراك. وتورطت الصين بالفعل في صدام داخل منطقة الهيمالايا في يونيو (حزيران) الماضي أسفر عن مقتل 20 جندياً هندياً على الأقل، إضافة إلى عدد غير معروف من الجنود الصينيين. وعلى مدار العام الماضي، نفّذ الجيش تدريبات عسكرية مكثفة حول تايوان تعد الأكبر من نوعها منذ أزمة كبرى وقعت منتصف تسعينات القرن الماضي.
الملاحظ أن شي عمد إلى ربط مكانته الشخصية بمشروعات، مثل استعادة جزيرة تايوان، الأمر الذي يتعذر إنجازه من دون استخدام قوة قمعية. وعملت الصين بسرعة على إنجاز إصلاحات عسكرية لتمكين جيش التحرير الشعبي من الانتصار في حرب عالية التقنية. من ناحيته، قال شي إن القوات الصينية يجب أن تكون «مستعدة للقتال وقادرة على القتال وواثقة من النصر».
في هذا الصدد، كتبت بالتعاون مع مايكل بيكلي، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة تفتس، أن الزعيم الصيني شي يتحرك على ما يبدو بدافع من مزيج سريع الاشتعال من الثقة والشعور بانعدام الأمن. وفيما يتعلق بالقوة العسكرية، تبدو الصين قوة كبرى بالفعل، وليست قوة صاعدة، خاصة أنها تملك، أو على وشك امتلاك، القدرة على شن هجوم خطير ضد تايوان وخلق تحدٍّ حقيقي أمام النظام القائم في شرق آسيا.
علاوة على ذلك، تواجه بكين مستقبلاً محتملاً من الجمود الاقتصادي والتراجع الاستراتيجي، مع تباطؤ وتيرة نموها وتواتر تداعيات تحركاتها القوية على الصعيد العالمي. جدير بالذكر أن شي فينغ، نائب وزير الخارجية الصيني، اشتكى إلى نائبة وزير الخارجية الأميركي ويندي شيرمان من أن «حملة كاملة على مستوى الحكومة والمجتمع يجري شنها بهدف إسقاط الصين».
تاريخياً، غالباً ما تصبح القوى الرجعية عدائية عندما تبدأ في الشعور بالقلق من أن ثمة فرصة جيوسياسية متاحة أمامها، لكن لن تبقى متاحة لفترة طويلة - وهذا تحديداً الموقف الذي تواجهه الصين تحت قيادة شي اليوم.
ويبدو هذا تحدياً، الولايات المتحدة غير مستعدة للتعامل معه، خاصة أن الأميركيين أفاقوا متأخراً لواقع دخولهم في منافسة أمام الصين، وثمة جدل دونما نهاية داخل الدوائر السياسية حول ما إذا كانت حرب باردة جديدة قد اشتعلت بين واشنطن وبكين. إلا أنه خارج جدران البنتاغون، ثمة تساؤل يفرض نفسه على الأميركيين: ماذا لو أن الحرب الباردة تشكل السيناريو الأفضل، بالنظر إلى أن خطر اندلاع حرب فعلية أكثر فداحة بكثير عما يمكن تخيله؟
وتكشف ألعاب الحرب الصادرة عن «راند كوربوريشن» وغيرها أن القوات الأميركية ستجابه صعوبة بالغة في الدفاع عن تايوان في مواجهة هجوم صيني. ويواجه النموذج الأميركي لنشر القوة العسكرية - القائم على استخدام حاملات طائرات وبضع قواعد عسكرية بالخارج في غرب المحيط الهادئ - تهديداً بالغاً من جانب الصواريخ الوفيرة المضادة للسفن التي تملكها الصين والدفاعات الجوية المتطورة والأسلحة السيبرانية المعقدة. من جانبه، يولي البنتاغون أولوية أكبر للدفاع عن تايوان وحلفاء الولايات المتحدة في غرب المحيط الهادئ، لكنه لا يحدث تغييرات جوهرية في موازنته بحيث يتمكن من شراء الأسلحة الطويلة المدى التي يحتاج إليها بسرعة.
أواخر الأربعينات، لم يتخذ الاتحاد السوفياتي قراراً مسؤولاً بعدم استخدام القوة مطلقاً ضد الغرب، لكنه قبل القيود المفروضة عليه بمرور الوقت مع إدراكه أن موسكو لن تتمكن أبداً من الفوز في حرب عنيفة بتكلفة مقبولة. اليوم، يجب أن تتحرك واشنطن سريعاً لتعيد تذكير الجميع بدرس كان الجيل السابق من صانعي السياسات يدركونه جيداً: فقط من خلال ردع حرب فعلية عنيفة يمكنك أن تشن حرباً باردة.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»