زهير الحارثي
كاتب وبرلماني سعودي. كان عضواً في مجلس الشورى السعودي، وكان رئيساً للجنة الشؤون الخارجية، وقبلها كان عضواً في مجلس «هيئة حقوق الإنسان السعودية» والناطق الرسمي باسمها. حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة القانون من جامعة كِنت - كانتربري في بريطانيا. وهو حالياً عضو في مجلس أمناء «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني». عمل في النيابة العامة السعودية إلى أن أصبح رئيساً لدائرة تحقيق وادعاء عام. مارس الكتابة الصحافية منذ نحو 3 عقود.
TT

25 يوليو: تونس الوطن لا تونس «الإخوان»!

الذاكرة تخبرنا أنه عندما اندلعت الثورات في بعض البلدان العربية في عام 2011، لاذت حركات الإسلام السياسي بالصمت والهدوء والحذر، خصوصاً في أول الأيام وعندما شعرت بإمكانية نجاح الحراك الشعبي العفوي لم تتردد في ركوب الموجة وارتفع صوت عناصرها عالياً وجيّرت كل ما حدث لحسابها ولأجندتها. الثورات كانت بلا قيادة آنذاك؛ ما جعل قمعها أصعب مما نتصور؛ ولذا استغل «الإخوان» بمكر ودهاء وخبث تلك الحالة الاستثنائية فاستولوا عليها، بل وجعلوا أنفسهم المفاوضين والرافعين أعلام النصر وإسقاط الأنظمة.
المثير أنه لم تمض أشهر بعد وصولهم للسلطة في تلك الدول إلا وتعرضوا لسيل من الانتقادات والمظاهرات التي ظلت تخرج مناهضة لحكم الإسلاميين، لتكشف وبحق فشل حكم «الإخوان» في قيادة دولة، بدليل فقدان النظام وهيبة الأمن وسلطاته في تلك البلدان.
تونس شهدت احتداماً وصراعاً واستقطاباً في المشهد السياسي في الفترة الماضية، وبالتالي كان طبيعياً أن تصل هذه اللحظة التاريخية التي تعيشها اليوم تونس الخضراء لا تونس «الإخوان»، وتحديداً منذ يوم 25 يوليو (تموز) الذي سيؤسس لما بعده. تونس تدخل مرحلة جديدة وإن تأخرت كثيراً تحت عنوان محاربة الفساد وتحقيق العدالة لمن اغتيلوا بكل خساسة ودناءة، وتوّج كل هذا بإسقاط الحصن الأخير لجماعة «الإخوان» في العالم العربي، وهو بطبيعة الحال أمر مزعج لأطراف وجماعات ودول معينة رأت في «الإخوان» ذراعاً ومكسباً ومغنماً يحقق لها النفوذ والتدخل والسيطرة، وقد دعمتها في العقد الأخير بالوسائل كافة لتحقيق ذلك الهدف.
الأحداث التونسية الأخيرة التي قادها الرئيس قيس سعيّد شكلت انعطافاً مفصلياً في مرحلة ما بعد الثورة لتعيد الأمور إلى نصابها، وقوبلت بدعم شعبي ومن القوى السياسية وبترحيب دولي، واللافت أنه تولى مؤقتاً جهاز النيابة العمومية من أجل كشف المخطط الإخواني وفتح ملفات الفساد وتورط «النهضة» في قضايا اغتيال الناشطين السياسيين البراهيمي وبلعيد، وفتح ملف التمويل الخارجي لثلاثة أحزاب، من ضمنها حركة النهضة في انتخابات 2019. هذا التحرك الجاد للرئيس الشرعي المنتخب هو بمثابة إعلان حقيقي على انهيار حركة النهضة وانكشاف ضعف الخبرة السياسية لديها، وفضح ممارساتها التي يعرفها الشعب التونسي ولم يستطع مواجهتها خلال السنوات العشر التي حكمت فيها «النهضة»، من ضمنها الثراء عن طريق الفساد وتهديد القضاة واغتيال الناشطين السياسيين.
هناك نحو 5 مليارات دولار منهوبة في تونس وقرر الرئيس إيجاد طريقة توافقية، أو كما سماه صلحاً جزائياً لبعض رجال الأعمال ممن تورطوا في ذلك من أجل استعادة الأموال المنهوبة إلى الشعب التونسي؛ كونهم قاموا بنهب المال العام، وكان محقاً عندما قال، إنه لا مجال للمضاربة أو الاحتكار أو استغلال الأزمة في البلاد.
كما أصدر الرئيس قيس سعيّد بالأمس قرارات بإعفاءات لشخصيات مسؤولة، وهي قرارات جريئة وتصويبية ومن المتوقع صدور قرارات أخرى تتضمن تشكيل حكومة فاعلة مصغرة ومعالجة الملفات المعلقة كافة بإسناد شعبي وعسكري وأمني.
لقد بلغ السيل الزبى في تونس، وكان من الطبيعي أن يتحرك الرئيس لاتخاذ ما يراه مناسباً عبر الذراع الدستورية التي تعطي له الحق في تلك الممارسة، وبعيداً عن المزايدات والمبالغات، فإنه لا يصح إلا الصحيح، لا سيما بعد المهزلة التي شاهدنا في البرلمان التونسي وأسلوب البلطجة من قبل منتمين إلى «النهضة» في مؤسسة تشريعية عريقة، ناهيك عن التدهور الصحي في الخدمات بفعل تصفية حسابات سياسية قادتها النهضة من دون اكتراث بحياة الشعب التونسي، ولولا اتصالات الرئيس التونسي مع بعض القادة العرب ودعمهم لتونس لكان الوضع أكثر سوءاً ومأساوية.
ليس سراً أن حركة النهضة أسقطت تونس في الفوضى والاغتيال السياسي والخراب. التونسيون يتحدثون عن دور الجهاز السري لحركة النهضة وما قام به من أفعال مشينة بحق الشعب التونسي، وهناك مطالبات بتقييم أدائه وكشف ما قام به من جرائم.
لولا يقظة الرئيس والشعب التونسي لما أوقف مشروع «الإخوان» الخفي ولاستولوا على كل شيء؛ فبراغماتية «النهضة» خادعة ولن تتحرر من جمودية الآيديولوجيا بدليل إخفاقها في تحقيق تطلعات الشعب التونسي.
نشهد اليوم فصلاً تاريخياً لافتاً لنهاية حقبة تيار الإسلام السياسي. صحيح أن حركات الإسلام السياسي فرضت نفسها على المشهد السياسي العربي، لا سيما ما بعد ما سمي ثورات الربيع العربي التي دفعت بها للظهور على الساحة بقوة، وأشعل نجاحها في الانتخابات الجدل حول ما إذا كانت الدولة مدنية أم دينية. غير أن الإشكالية في تصوري تكمن في التناقض والانتهازية، فالمشروع السياسي شيء، وممارسة الفعل السياسي شيء آخر. وهو ما يدعم مقولة إن الحركات الإسلامية تعاني من ضآلة المنتج الفكري والخبرة السياسية؛ ولذا المحك الرئيسي لها هو عند الممارسة السياسية. لا يوجد مثال على تلونهم ونفاقهم مثل موقفهم مع دولة الكويت عندما غزاها صدام حسين رغم أن الكويت الداعم الأكبر لهم حينذاك.
نواب وطنيون في البرلمان التونسي كشفوا الحقائق وفضحوا المتورطين في اللعبة السياسية، وفي مقدمتهم رئيس البرلمان الغنوشي، واضعين مصلحة بلادهم فوق كل اعتبار؛ لكونه تجاوز دوره السياسي وتأثيره في الحيز التونسي ليصبح إقليمياً، وباتت تصريحاته ومبادراته وتبعاتها تمثل خطراً على أمن واستقرار بعض الدول، حيث تدخل الرجل في ملفات عديدة وأصبح انتماؤه الآيديولوجي العابر للقارات مهدداً لأمن بلاده القومي. هناك أيضاً تنديد صارخ حول تجاوزاته السياسية.
العقلية الطافحة بالنرجسية وتضخم الأنا، تنفرد في نموذجها، حيث تتمسك بآيديولوجيتها وانتمائها حتى لو تعارضت مع المصالح الوطنية. رُزئ العالم العربي ببعض الشخصيات التي ما زالت تستمرئ خداع الشعوب وطرح الشعارات، وصانع القرار عليه أن يتحمل تبعاته كما في حالة راشد الغنوشي.
بعد سقوط مشروع «الإخوان» في تونس يبدو أن موقع الغنوشي قد انتهى بالمعنى السياسي، وهو الذي عجز من الانفكاك من الآيديولوجيا والانتهازية. التاريخ اليوم يحاكم سياسات الغنوشي.
إن إخفاق مشروع «الإخوان» لم يأت عبثاً أو نتيجة لمواقف سياسية أو آيديولوجية، وإنما جاء بعد تقويم تجربة باتت تمثل خطراً حقيقياً على الشعب التونسي ومقدراته ومكتسباته.