سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

كابل: في أي اتجاه؟

لا أستطيع ادعاء المعرفة في أفغانستان. هناك حروب كثيرة تعاطفنا معها، أفراداً أو صحافيين، تعاطفنا مع الأيتام والأرامل وطوابير المهجرين داخل الحدود أو عبرها. مع صور الفيتناميات العرايا بفعل انفجار قنابل النابالم عن بُعد. مع مجاعات الصومال المذلة للإنسانية جمعاء. مع مسلمي ميانمار في وجه العسكر. مع ضحايا الفيضانات السنوية في بنغلاديش. سواء كنت صحافياً تتابع أخبار العالم لسبب مهني، أو إنساناً عادياً، هناك أحداث لا يمكن ألا تتأثر بها، وأن تتحزب أحياناً لفريق دون آخر وكأنك معني مباشرة بالنزاع وآثاره. وكنا نكتب عن حروب فيتنام ضد الأميركيين، ومع حريات أوروبا الشرقية ضد السوفيات، وكأننا طرف في المسألة. لم تلزمنا الحروب أو النزاعات العربية وحدها، بل الكثير من آلام هذا العالم ومظالمه. ولم نصب بالملل، ولا أجدبت فينا المشاعر الإنسانية.
عندما أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن عن سحب القوات الأميركية كلياً، سارعت إلى الكتابة عما بعد الانسحاب. لقد مر هذا المشهد مرات كثيرة من قبل في أنحاء كثيرة من العالم: الاحتلال، أو الاستعمار، يخلي الأرض لأهلها، ويترك خلفه المعذبين والأيتام والانتقام والعملاء والضحايا وبضع مذكرات سريعة الرواج وأضرحة ومقابر جماعية. وانتهى الأمر. فلننتقل إلى مكان آخر.
غريبة حروب أفغانستان. الآن فقط نرى فيها صور أطفال وهاربين. لم تكن تأتي منها سوى مشاهد المقاتلين الأشداء والجبال العاصية وقوافل الأفيون. حرب تلد أخرى. وحرب تجتذب أخرى. وصور عداوات بلا نهاية في المسألة الداخلية بينما الخارج يراوح بين السوفيات والأميركيين بعد عقود من الصراع بين الفرنسيين والبريطانيين. وقتل بلا نهاية.
وها هو الرئيس أشرف غني يقصف بالصواريخ وهو يصلي. لا شيء ممنوعاً في حروب أفغانستان. لقد أعدم الرئيس محمد نجيب الله وهو لاجئ في حماية الأمم المتحدة. ودام حكم بعض الرؤساء ثلاثة أيام أو سبعة أو 23 أو 38، بينما دام حكم الملك محمد ظاهر شاه 40 عاماً حتى 1973.
في نهاية هذه النزاعات يتكرر السؤال: والآن إلى أين؟ تخرج الولايات المتحدة وليس في المقابل «اتحاد سوفياتي» أو حتى «حركة عدم الانحياز». هل تتجه إذن إلى الصين التي تربطها معها علاقات حسنة منذ القدم؟ بل السؤال هل تغامر الصين بالخروج عن خطها العام وتتحالف مع دولة «مسيسة» إلى هذه الدرجة؟
تكراراً، إلى أين؟ الخوف الأكبر أن يسكت النزاع الخارجي وتستفيق من جديد البراكين الداخلية. وهذه لغتها الاغتيالات. وربما كان الثابت الوحيد أن عدداً كبيراً سوف يهاجرون إلى الولايات المتحدة للانضمام إلى من سبقهم: بسراويلهم التقليدية، وقبعاتهم الواسعة المصممة لاتقاء البرد وتساقط الثلج.
أفغانستان عائدة إلى ما مضى. لا تطيق طرق المستقبل.