عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

النظام الإيراني والزمن الأصولي

الزمن الأصولي يتعزّز ويتكرس في الشرق الأوسط وفي العالم، ورغم المحاولات المدنية والتحديثية لدولٍ مهمة في المنطقة، مثل السعودية ومصر والإمارات، فإن الوعي بطبيعة التاريخ وتوازنات القوى العالمية يفرض تبصراً أكبر ووعياً أقوى وتعاملاً من كثير من التفاصيل المتعارضة وربما المتناقضة في بعض الأحيان.
أربعة عقودٍ مرّت وثمانية رؤساء أميركيين ونهاية حرب دولية باردة وتغير كبير لنظام دولي، ورغم ذلك لم يتغيّر النظام «الثيوقراطي» الإيراني، ولم يستجب لأي محاولات احتواء أو دبلوماسية نشطة أو مفاوضات واتفاقات تحول دون مبدئه الأساس، وهو «تصدير الثورة» وفرض الهيمنة وبسط النفوذ.
بمقارنة سريعة وليست متعجلة، فإن النظام الإيراني قبل بضعة أشهرٍ كان يرزح تحت عقوباتٍ أميركية صارمة أجبرته على تخفيض نشاطه الإقليمي مرغماً، وصلت إلى تصفية أبرز رموزه المقاتلين: قاسم سليماني في العراق، وكان النظام الإيراني خائفاً يترقب من أي فعلٍ أو نشاطٍ إرهابي تقوم به الميليشيات التابعة له في الدول العربية، ويتحدث مسؤولوه ليتبرأوا من أي شيء قد يُستخدم ذريعة لضرب النظام، واليوم عاد النظام إلى كل سياساته العدائية، وتوسَّع في منشآته النووية، وحرّك الميليشيات التابعة له في العراق واليمن وفلسطين، وهو يسعى لسحق المعارضة في الأحواز بطرقٍ بشعة، ويعمل لاغتيال معارضين داخل أميركا، كما حدث مؤخراً في نيويورك.
إنها رحلة سريعة من «الإذلال» إلى «الدلال» تختصر كثيراً من الفروق بين رؤية الإدارة الأميركية السابقة والحالية للطريقة الأفضل للتعامل مع النظام الإيراني، وما يهمنا في المنطقة ليس طبيعة الخلاف بين الحزبين الأميركيين، ولكن أثر استراتيجية كلٍ منهما على منطقتنا ودولنا وشعوبنا، والاستراتيجية الحالية تمنح إيران وستمنحها مستقبلاً هامشاً أكبر للحركة والنشاط والتأثير.
الشعار الشهير للنظام الإيراني وميليشياته هو «الموت لأميركا... الموت لإسرائيل» ولكن كل استراتيجياته وسياساته ومواقفه وتحالفاته وميليشياته وأتباعه من جماعات الإسلام السياسي وتنظيمات العنف الديني السنية تثبت أن أحد أهم أهدافه هو «استهداف السعودية»، سواء في دستوره أم في وصية الخميني أم في خطابه وخطاب رموزه وأتباعه في الدول العربية، وهو أمرٌ لا تخطئه عين المتابع والراصد في تفاصيل لا تُحصى.
لا توجد دولة كبرى في العالم مؤهّلة لإيقاف النظام الإيراني عن سياساته التوسعية والتخريبية سوى أميركا؛ فالصين بدأت تتجه لربط النظام الإيراني بها بقوة، وروسيا لديها تحالفات معه في سوريا وغيرها، والدول الأوروبية عاجزة عن فعل شيء مهم استراتيجياً تجاه إيران، وهي تقف خلف أميركا، ويقودها الطمع الاقتصادي أكثر من الوعي الاستراتيجي، والمشكلة اليوم تكمن في استعداد أميركا لتقديم كثير من التنازلات للنظام الإيراني.
«عودة الإخوان» ومعهم غالب جماعات الإسلام السياسي، كالسرورية وغيرها، للتأثير والسعي لاستعادة السلطة على المجتمعات، و«عودة طالبان» للسيطرة على الحكم في أفغانستان، و«عودة النظام الإيراني» لاستئناف سياساته واستراتيجياته التوسعية التي تباطأت في عهد إدارة ترمب ولم تتوقف كلها مع غيرها، مؤشراتٌ كبرى على عودة «الزمن الأصولي» في المنطقة والعالم.
علاقة «اليسار العالمي» بـ«الأصولية الإسلامية» معروفة، ويسهل استحضارها من جماعة «الإخوان المسلمين» إلى ثورة الخميني، و«اليسار الليبرالي» الأميركي هو الذي صنع «الاتفاق النووي» مع إيران، وهو مَن يتفاوض معه اليوم لاستئناف ذلك الاتفاق المعيب والمدمّر من جديد، وكل التصريحات حول ما يجري في «مفاوضات فيينا» تتحدث عن خلافاتٍ يمكن تجاوزها لا عن خلافاتٍ جوهرية غير قابلة للحل، وسيرى العالم، وخصوصاً دول المنطقة وشعوبها، آثار ذلك في المستقبل القريب لا البعيد، والعاقل خصيم نفسه، والحديث هنا عن سياسات معلنة واستراتيجيات واضحة لا تحتاج إلى مزيد تدقيق وتحليل لفهمها واستيعاب آثارها المقبلة.
بالأمس القريب سعى المشروعان المعاديان للدول العربية في المنطقة، وهما «المشروع الطائفي» و«المشروع الأصولي» إلى بناء تحالفٍ سياسي مع عددٍ من الدول الإسلامية في ماليزيا وباكستان ودولة عربية، بهدف تحجيم دور «السعودية» في قيادة العالم الإسلامي ولم يُكتب له النجاح، غير أن أفكاراً من هذا القبيل قد تجد لها مكاناً في «الزمن الأصولي».
نظرة «الأوبامية» السياسية للفرس وللعرب كأمتين كبيرتين مختلفة تماماً، ففي حين ترى «الفرس» أمة متحضرة، فإنها ترى «العرب» أمة على العكس من ذلك، ورغم أنها نظرة قاصرة جداً في وعيها بالتاريخ والأمم والشعوب وفي الفلسفة التي بُنِيت عليها من الأساس، فإن المهم هنا ليس مجادلتها وإثبات ضعفها وتفككها، بل الأهم هو الوعي بتأثيرها على أي صانع قرارٍ قد يبني عليها مواقفه ورؤيته للواقع والمستقبل.
«ميليشيا الحوثي» لم تعد إرهابية، حسب التصنيف الأميركي، و«حزب الله اللبناني» يحشد أتباعه لأي حربٍ قادمة مع إسرائيل، و«حماس» مستعدة لحرق قطاع غزة عند أول إشارة من إيران، ولهذا فإسرائيل تبدو الدولة الأكثر استعداداً لمواجهة النظام الإيراني، والضربات الإسرائيلية داخل إيران تجاه المشروع النووي وقادته وعلمائه، وعبر «الهجمات السيبرانية» الموجعة وفي سوريا، حيث القصف المستمر للمعسكرات الإيرانية والميليشيات التي تديرها إيران هناك كلها مؤشراتٌ على أن الوعي بالخطر الإيراني ليس مقتصراً على الدول العربية.
«الأصولية الشيعية» الإيرانية تأثرت كثيراً بـ«الأصولية السنية» التي بناها المودودي الباكستاني، وحسن البنا وسيد قطب المصريان، وإيران رعت ودعمت تنظيم «القاعدة» وتنظيم «داعش» وهما سيعودان للمشهد من جديد، ومع عودة «طالبان» فإن الانتعاش الأصولي سيكون واسعاً وخطيراً.
انتعاش «الزمن الأصولي» سيرافقه مجدداً غض للطرْف عن الداعم الحقيقي له في إيران، والضغط على «الدول العربية» وتحميلها تبعات جرائمه، مع رفض تصديها الصارم له من قبل الغرب، وهي قد صنّفت جماعاته وتنظيماته إرهابية ولاحقت عناصره وقياداته، إلا أنهم جميعاً وجدوا الملجأ والملاذ في إيران وغيرها، والأخطر في الدول الغربية، وهذه الجماعات بطبيعتها لا تتوقف عن العمل، بل تسعى تحت شتى الظروف للتأثير السياسي الذي تستهدف به إسقاط الدول العربية ونشر الفوضى والإرهاب داخلها.
أخيراً، الظواهر والتحولات الكبرى التي تجري في التاريخ تحتاج لعين فاحصة وتحليل دقيق لرصدها وقراءتها، والمشهد ليس مظلماً تماماً، ولكن المؤمن لا يُلدغ من جحرٍ مرتين.