سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

يعجن الأسماء أبطالاً

كان لغابرييل غارسيا ماركيز، الذي يناديه صديقه فيدل كاسترو وآخرون، «غابو»، ذاكرة قطع على صفحاتها كل اسم يمر من أمامها. جميعها، في البداية، بلا أي أهمية على الإطلاق، في كولومبيا... صاحب المكتبة الذي طلب منه قرضاً من عشرة بيزوات، ولم يكن معه منها سوى ستة. واسم جده كاملاً: الكولونيل نيكولاس ريكاردو ماركيز ميخيا. واسم جدته لأمه: ترانكيلينيا أغواران. ونهر الريو فريو. وقرية ثيناغا المستنقعية. وصاحب سينما البلدة، دون أنطون داكونتي.
...ومزرعة الموز، ماكوندو. وزوارق الكانوا المنحوتة قطعة واحدة من شجرة ضخمة. ورقصة الكومبيا مامبا. ومدرسة مونتسيوريا الصغيرة. وناصية جاكوبو بيركاشا. وماريا كونسو غويرا التي أردت اللص الذي حاول سرقتها «وبعدها سمعت صمتاً كبيراً». و«لويس كارميلو كوريا؛ أقدم أصدقاء عمري». وصيدلية ألفريدو باربوتا. والروائية أدونيا باربارا. والروائي رومولو غيبوس. ولوسيا ماركيز المستأجرة التي عرضت شراء البيت مع أنها لا تبدو عليها مظاهر الثراء. وأليخيو غابرييل شقيقه الحادي عشر. والكاتاشاكو، أهالي الهضبة الهنود. ورافائيل لجنيترو أورتيغا الذي مات قبل يوم واحد من بلوغه المائة. ومارغريتا ماريا مينياتا، شقيقته التي توفيت طفلة وعلقت صورتها في الدار.
...أسماء؛ من منطقة مجهولة. من بلد فقير يدعى كولومبيا، ليس معروفاً إلا بسمعة المخدرات. لكنه أصبح أيضاً بلد غابرييل غارسيا ماركيز، أشهر روائي في تاريخ أميركا اللاتينية، وأهم أدبائها. وهكذا، أصبحت كل هذه الأسماء التي لا تعني شيئاً لأحد، وحتى لأصحابها، أسماء تبحث أنت عن أصولها، ولماذا مرت عابرة في الحياة، ولماذا ظهرت في حياة ماركيز. هذه هي عظمة الفن ومواهب الأدب. كل هؤلاء المجهولين حوّلهم ماركيز إلى أبطال في سيرته الذاتية «عشت لأروي».
ماذا يروي هذا الساحر الفريد؟ يوميات لا تعني شيئاً لأحد. حكايات عادية مثل فشله في إكمال دراسة الحقوق. مثل سهرات المقاهي الخاملة في بوغوتا، التي مثلها ملايين الحكايات حول العالم. أسماء رفاقه في صحيفة «الاسبكتاتور». اسم رئيس القسم الثقافي في الملحق. اسم الصحافي المنادي.
أسماء تمر عادية في الحياة. عادية وبلا ذكر. أسماء منسية ومن عالم باهت. ماذا يعني لك كارلوس بيراس ريستيريو رئيس الهيئة المدنية؟ أو لأي قارئ في العالم، حتى في كولومبيا، بلد إسكوبار؟ إنه واحد من مئات الأسماء التي أعطاها حق الشهرة، ما دامت مرّت في حياته. الأدب لعبة فائقة الخطورة، كما كان يقول طه حسين في استخدام هذا التعبير المحبب لديه. وهو يعني عنده ما لا يعني عند سواه؛ لأن العميد هو العميد، وليس سواه. ومن بين سائر المفردات واختلافها وغزارتها، عدّ أن «الخطر» هو ذو الشأن العظيم. وكم كان شأنه عظيماً.