د. ياسر عبد العزيز
TT

هل تقتل «السوشيال ميديا» الناس؟

يبدو أن شركات التكنولوجيا العملاقة القائمة على تشغيل ما يُسمى بـ«وسائل التواصل الاجتماعي» تواجه اليوم واحدة من أكبر الأزمات التي عرفتها منذ هيمنت على الفضاء الاتصالي العالمي، ولونت العالم بألوانها، وضبطت أداءه على إيقاعاتها الصاخبة.
فقد شن الرئيس الأميركي جو بايدن، هجوماً على تلك الشركات يمكن وصفه بأنه «الأعنف والأكثر تركيزاً»، في تصريحات صحافية أدلى بها نهاية الأسبوع الفائت، قال فيها بحسم قاطع إن تلك الشبكات «تقتل الناس».
لا يبدو أن بايدن تورط في هذا التصريح الخطير، أو أنه ذهب في محاولته لتجسيد خطورة المعلومات المضللة المتداولة بكثافة على هذه الشبكات إلى مجاز غير مدروس بقصد التوضيح وخلق الانطباع، لكن الأرجح أن ذلك موقف تريد الإدارة الأميركية أن تعلنه، وأن تمضي قدماً في الدفاع عنه وتأكيده.
فبموازاة هذا الموقف الصارم الذي عبر عنه بايدن كانت متحدثة باسم البيت الأبيض تدلي بدورها بإفادات صحافية، حين تساءلت: «لماذا لا نشارك جميعاً في توفير معلومات دقيقة حول الجائحة واللقاحات؟»، وهذا بعدما أكد كبير الأطباء في الولايات المتحدة الأميركية فيفيك مورثي، أن «المعلومات المضللة تزهق أرواحاً، وقد استطاعت أن تلوث بيئتنا، وعلينا أن نعمل في سرعة وثبات ضد من يروجون تلك المعلومات».
مع استمرار تصاعد عدد الإصابات بـ«كوفيد - 19» تحت وطأة ضربات متحور «دلتا» في الولايات المتحدة، اكتشفت السلطات أن المعلومات الزائفة الجاري بثها عبر وسائط «التواصل الاجتماعي» تلعب دوراً مؤثراً في تعزيز نوايا رفض الحصول على اللقاح، وهو أمر أمكن إثباته من خلال عديد الدراسات التي استهدفت سبر أبعاد بيئة المعلومات المتداولة عبر تلك الوسائط وعلاقتها بشيوع نظريات المؤامرة والتشكيك في التطعيم.
ومن بين تلك الدراسات برز تقرير مهم صدر في مارس (آذار) الماضي عن مركز «مكافحة الكراهية الرقمية» (سي سي دي إتش)، ليقطع بأن ثلثي المحتوى المعارض للقاحات ضد «كوفيد - 19» يأتي فقط من 12 شخصاً من المؤثّرين على تلك الوسائط، وقد سماهم «دستة المعلومات المضللة».
وفي دراسة صدرت أخيراً عن دورية «طبيعة السلوك البشري»، خلصت نتائج استطلاع آراء نحو 8000 من مستخدمي وسائل «التواصل الاجتماعي» في الولايات المتحدة وبريطانيا إلى أن 75 في المائة منهم أفادوا بتلقيهم معلومات خاطئة بخصوص اللقاح عبر تلك الوسائل، بينما ربط القائمون على الدراسة بوضوح بين تلك المعلومات الخاطئة وبين انخفاض نوايا الحصول على اللقاح لدى المستطلعة آراؤهم.
وفي أبريل (نيسان) الماضي، أجرت جامعة كورنيل الأميركية دراسة على عيّنة من مستخدمي موقع «تويتر»، وهي الدراسة التي خلصت إلى ضرورة أن تكون «معالجة المعلومات الخاطئة عبر الإنترنت عنصراً رئيسياً في التدخلات التي تهدف إلى تعظيم فعالية حملات التطعيم ضد (كوفيد - 19)».
لم يكن العالم غافلاً عن الدور السلبي الذي تلعبه وسائل «التواصل الاجتماعي» في تعميق حالة الشك إزاء «كوفيد - 19» واللقاحات المضادة له، بل إن منظمة الصحة العالمية سبق أن حذرت بوضوح من أن العالم يواجه في الواقع وباءين: وباء «كوفيد - 19»... و«وباءً معلوماتياً» (pandemic and Infodemic).
ومع ذلك، فإن تلك الشبكات لم تعترف أبداً بدورها السلبي والخطير في إعاقة خطط مواجهة الجائحة، وفي تعزيز الشكوك في اللقاحات. وكما دافعت سابقاً عن أدائها في مواجهة الانتقادات الأممية، واصل «فيسبوك» تشبثه بموقفه، فأصدر بياناً لاذعاً رداً على تصريحات بايدن، قال فيه: «الاتهامات غير المدعومة بحقائق لن تشتت تركيزنا. الوقائع تُظهر أننا نساعد في إنقاذ الأرواح. نقطة. انتهى».
يفيد بيان «فيسبوك» بأن القائمين على إدارته، كما غيرهم من مشغّلي مواقع «التواصل الاجتماعي»، لا يعتزمون المضي قدماً في سياسة شفّافة وفعّالة للحد من المعلومات المضللة وشيوع نظريات المؤامرة على منصاتهم، إذ إنهم ما زالوا في مرحلة الإنكار.
نعم، سيكون اتخاذ تلك المنصات قرارات فعالة للحد من المعلومات المضللة على شبكاتهم عملاً أشبه بقيام تاجر بالتخلي عن أكثر السلع التي يبيعها تمتعاً بالطلب، وفي ذلك لا شك خسارة محققة لجانب من التفاعلات التي تنعكس في الأرباح الوفيرة.
وبالتالي، الحل لن يأتي عبر إجراء المزيد من الدراسات التي تثبت تورط تلك الشبكات في تضليل الناس والإضرار بصحتهم، ولا من خلال تصريحات اللوم والانتقاد التي يطلقها القادة والمختصون فقط، ولكنه سيأتي أساساً عبر سن القوانين التي تُحمّل مالكي شركات التكنولوجيا العملاقة مسؤولياتهم، وتحملهم على اتخاذ القرارات الصحيحة.