سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

انتصار أبشع من الهزيمة

قبل أي شيء، يجب الإقرار بأن جبران باسيل قد ربح. فاز على سعد الحريري وعلى «تيار المستقبل» وعلى الرئيس نبيه بري وعلى بطريرك الموارنة، وعلى الرموز السنية وعلى الجامعة العربية والدول الكبرى. وانتصر – خصوصاً – على لبنان.
كيف يمكن أن يهزم كل هذه القوى الوطنية رجل خارج عن كل أعراف لبنان ومفاهيمه، وحتى الاتفاق بين روسيا وأميركا وبريطانيا، وعن موقف مصر، وعن رغبة الفاتيكان وسائر قوى الاعتدال في العالم؟ لا أعرف. كل ما أنا واثق منه، أنه يوم مؤلم في تاريخ لبنان. ليس لأن سعد الحريري قد خسر، بل لأن جبران باسيل انتصر. هذا حدث مؤلم، وباب شديد الخطورة، يفتح بلداً فقد كل إمكانات البقاء كدولة، والآن كوطن، في سبيل رجل تصفه «التايمز» بأنه «الأكثر مكروهية في تاريخ لبنان».
كيف يمكن الجمع بين «الأكثر مكروهية» والأكبر انتصاراً في سياسات لبنان؟ اختلال لبنان وسياساته وقيمه وسقوطه النهائي كمؤسسة قابلة للحياة. لم يكن سعد الحريري يمثل كل هذه الأسس. لكنه أيضاً لم يكن يختصر العداء لها واحتقارها ونكرانها واعتبارها هراء لا وقت له.
الرجل الذي ظل جبران باسيل يماحكه حتى تم تغيير الدستور لإخراجه، لم يكن أكثر سياسيي لبنان ذكاء أو دهاء أو خبرة سياسية. بل إلى حد بعيد كان العكس. والدليل أنه قَبِلَ التعامل مع باسيل طوال سنوات على أنه حامل مفاتيح الجمهورية وساحرها. وكان يستقبله بعد ظُهر كل أحد خارج إطارات العمل، وهو يرتدي قميصاً أبيض أقرب إلى الفانيلات، رافساً بضحكته العريضة بكل جد، أصول أو لياقة، لكي يرسل إلى الجميع، برقية قليلة الاحترام، تؤكد أن لا صفة رسمية له، لكن لا حاجة لها إطلاقاً في ميزان القوى.
سعد الحريري كان رجلاً طيباً في غابة من الذئاب. وكانت له خصائل ونيات حسنة. لكن هذه ليست مؤهلات جيدة في الأدغال وعباداتها، وتبنى سياسة الضعف حيال خصومه والقوة حيال حلفائه. ولم يدرك إلا متأخراً مدى الخبث واللؤم والعدمية، المضروب من حوله.
ولا يخسر سعد الحريري وحده في هذا السقوط المدوي لكل ما بقي من لبنان السابق، بل يمنى بالخسارة الكبرى أيضاً رموز العراقة والألمعية والتمثيل الوطني الحقيقي، مثل نبيه بري ووليد جنبلاط، أو القوى المستقلة الرافضة كلياً لهذا المهرجان الكئيب في جنازة لبنان، يتقدمه ضاحكاً ضحكة الانتصار، رجل لا يحقق سوى تغلب الحقد والثأر وبسط الفراغ المدمّر. وسوف أستعيد في هذه المناسبة ما كررته في هذه الحالات منذ حرب لبنان: انتصار أبشع من الهزيمة.