د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

أحسنُ القول أوجزه

يَزعُم البعض أننا أمة جبلَت على الإسهاب الكلامي! غير أن المتدبر في أدبيات العرب، وأشعارهم، وحِكَمَهم، يجد فيها مباشرة مذهلة في الطرح. وفي مقدمة هؤلاء حكيم العرب أكثم بن صيفي، الذي قال كلمته الشهيرة: «أحسنُ القول أوجَزه». و«آفة الرأي الهوى» و«من شدّد نفر» و«ربّ قوْل أنفذ من صَوْل» والصولة: سطوة في حرب أو غيرها. ومن درره أيضاً قوله إن «من علامات الجهل الإجابة قبل الاستماع». يا لها من معانٍ عميقة أوجزتها بضعة مفردات لم تتجاوز ثلاث كلمات.
روعة الإيجاز أنه يحافظ على «تركيز» المستمعين، ويعين السامع على «تذكر» ما تناهى إلى أسماعه. وعلى هذا الأساس بنيت نشرات الأخبار، إذ تسمع في ربع ساعة أخباراً جادة، وعامة، ومنوعة، ورياضية، وربما طريفة في خاتمها بلحظات خاطفة.
وقد حللت ذات يوم المقدمات الخبرية لإذاعة «بي بي سي»، فوجدت عدد كلماتها يقارب 25 كلمة. لكنها تجيب عن الأسئلة الشهيرة التي يعرفها كل صحافي (5Ws) أي تلك التي تبدأ بحرف دبليو بالإنجليزية: متى؟ وأين؟ وماذا؟ ومن؟ ولماذا؟ وقد تعلمنا في بواكير انضمامنا للصحافة بأن الإجابة عن هذه الأسئلة تمنح المتلقي تقريباً كل عنصر رئيسي عن الموضوع الذي نتحدث عنه. ولو التزم الناس في مداخلاتهم بهذا الإيجاز غير المخل لصارت مجالسنا عامرة بالمتعة والفائدة والتنوع في قالب مختصر. ومن أدب الحديث ألا يثقل المتحدث على آذان السامع. ولذا قيل: «لا تطعم طعامك من لا يشتهيه» أي لا تقدم «كلامك» لمن لا يشتهي سماعه.
وبالمناسبة هناك حُكم قضائي شهير سقط لأنه لم يكن مذيلاً بتاريخ، رغم أنه كان يضم سائر التفاصيل المطلوبة. وتاريخ الحديث أو ما نحاول أن نشير إليه أمر مهم فما نراه في عصرنا مقبولاً ومرحباً به ربما كان في الماضي القريب أمراً مستهجناً أو مستنكراً.
خلاصة القول إن الإيجاز حيلة ذكية لأننا نثير بها فضول المهتمين «الحقيقين» بكلامنا. ولهذا أحرص على ألا تتجاوز كلمات مقالاتي 300 كلمة حتى يمكن قراءتها في غضون دقيقتين. وهي مهمة صعبة. فما أسهل الإسهاب وما أصعب الإيجاز. ولذا قال حكيم العرب «أحسنُ القول أوجزه».