فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

الأعطال النظرية لفكرة «ما بعد الإسلاموية»

ظهرت فكرة «ما بعد الإسلاموية» بعد الربيع العربي؛ باعتبار الحدث يمثل التحول الجذري من حالة الإسلاموية العنيفة إلى اقتفاء أثر الديمقراطية والتعددية، فقوى الإسلام السياسي - بحسبهم - تنتقل تدريجياً من العمل الحربي والعسكري ومقاومة مؤسسات الدولة إلى الانخراط بالبرلمانات، والمشاركة في الحكومات. وهذه نظرية هيمنت على مراكز دراسات بحثية، مثلما تغلغلت لتكون الراسمة لسياسات أمنية وعسكرية واستخبارية.
إن الإسلاموية ظاهرة غير قابلة للانقراض ولا للانتهاء، فالأصولية جزء من التكوين المجتمعي للمسلمين، والهدف من كل الحروب عليها تحجيمها وسحق أصولها ومؤسساتها، وإلا فلن تختفي من الوجود أبداً.
وعليه فإن الحديث عن نهايتها أو أفولها أو تجاوزها إلى «البعدية» على الطريقة التحقيبية «الكورنولوجية» يحمل خلله النظري. ولا يمكن مقارنتها بالظواهر العلمية والفلسفية كوصف «الحداثة، والبنيوية، وما بعد الحداثة، وما بعد التفكيك». تلك ظواهر علمية وموجات نظرية يزحزح بعضها بعضاً.
أما في الحالة الإسلاموية من المستحيل التعامل معها بهذا المعنى الذي رسمت له خطوط نظرية محاولة تبييئته باعتباره مجرد موجة تحليلية أو موضة سياسية كالذي حدث في أوروبا طوال القرون الستة الماضية.
في 23 يونيو (حزيران) كتب شارلز ليستر، زميل ومدير قسم مكافحة الإرهاب بمعهد الشرق الأوسط، مقالة نُشرت بهذه الجريدة بعنوان: «الحرب على الإرهاب لم تنتهِ بعد»، مما قاله: «في دوائر صنع السياسات في واشنطن، بات من الشائع سماع الادعاء بأن نهاية الحرب على الإرهاب باتت وشيكة بعد عشرين عاماً من اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول). فبالنسبة للبعض، فإن الولايات المتحدة تنسحب من (حروب أبدية) كما هو الحال في أفغانستان، والعراق حيث قللت من انتشارها، وفي مختلف المسارح في أفريقيا. وبالنسبة لآخرين، لم تعد الحرب على الإرهاب ضرورية، ببساطة بسبب التقديرات التي تقول إن الوطن الأميركي لم يكن آمناً كما هو اليوم من هجوم إرهابي مريع أكثر من أي وقت منذ 11 سبتمبر».
وجهة النظر هذه منسجمة مع نظريات «ما بعد الإسلاموية»، حتى وإن كان الخلاف بين النظريتين ينحصر في نقطة واحدة، الحرب على الإرهاب ليست ضرورية، ما بعد الإسلاموية تقول إن الحديث عن الأصولية يجب ألا يلهي عن التطور المدني لدى الأحزاب الإخوانية، هذه الرؤية الخطرة مطروحة في أبحاثٍ ودراسات.
لنقرأ كتاب «ما بعد الإسلاموية - الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي»، مجموعة أبحاث اعتنى بها آصف بيات. يقول آصف في بحثه التقديمي المعنون بـ«ما بعد الإسلاموية على نطاقٍ واسع»: «اليوم في ظل عالم العولمة المختلف كلياً عن ذاك العهد (يعني فترات الإصلاح) ندخل عصراً جديداً في العالم الإسلامي حيث تفسح الإسلاموية، المصابة بأزمة الشرعية لتجاهلها وانتهاكها حقوق الشعب الديمقراطية، المجال إلى نوعٍ جديدٍ من السياسة الدينية، التي تأخذ الديمقراطية على محمل الجد، فيما تدعم الفئات المتدينة في المجتمع. ويبدو أن هذه السياسة تبشر بعالم إسلامي ما بعد إسلاموي، تجمل فيه الحركات الشعبية سماتٍ ما بعد آيديولوجية، ومدنية وديمقراطية. وتمثل الحركة الخضراء في إيران والربيع العربي الحركات الشعبية في عصر ما بعد الإسلاموية»(ص:55).
ولم يقتصر هذا التحليل الغارق بالتفاؤل الديمقراطي، وأوهام التغير الفكري للحركات الأصولية على «الإخوان المسلمين» وفروعها («السرورية»، «القاعدة»، «داعش»)، بل طبق على حزب أصولي إرهابي مثل «حزب الله».
إن القارئ لبحث جوزيف الأغا في الكتاب آنف الذكر بعنوان «انفتاح (حزب الله)، هل هو انعطافة ما بعد إسلاموية» يصعق من التحليل الغرائبي لنمط الحزب وإدارته لسياساته. يقول جوزيف: «منح التراث الشيعي السياسي الديني (حزب الله) الصحة التي كان بحاجة إليها كي يستخلص منه برنامجاً سياسياً قائماً على البراغماتية والمرونة. ومن خلال اعتماده على الطبيعة التقدمية للفقه الشيعي، أعاد الحزب صياغةً وبناءً تفسير سلطة هذا الفقه على نحوٍ يضفي على مشاركته السياسية التعددية القائمة على نظام الحصص والأبوية. بذلك كان الحزب من خلال اعتماده على مفهوم المصلحة قادراً على التغير في سياق ظروفه، حيث أعاد تأويل مبدأ ولاية الفقيه. ويمكننا عزو هذا التأويل إلى التغير في الظروف التاريخية والاجتماعية، والأكثر أهمية، إلى نتائج التفاعل مع الفاعلين السياسيين الآخرين. وعلى هذا فإن الواقع الموضوعي والسوسيولوجي والسياسي للبنان قد دفع هذه الحركة الإسلاموية إلى الطريق ما بعد الإسلاموية، حتى وإن كانت هذه الما بعد إسلاموية براغماتية وانتقائية وغير متسقة» (ص:304).
مثل هذه التحليلات تجد صداها حتى اليوم؛ ثمة خبراء كثر يؤثرون على السياسات لديهم القدرة على التخفيف من خطر الأصوليات، حين تعتقد أن لدى «حزب الله» نقاط «انفتاح»، أو أن «الإخوان» في العالم الإسلامي يجنحون نحو «التعامل الجدي» مع الديمقراطية فإنك تستهين بخطر كارثي.
انسحاب أميركا من أفغانستان والعراق، وسحبها لقدراتها الدفاعية، واستهانتها بمعارك الحلفاء كله سيجعل العالم أكثر اضطراباً. في 13 مايو (أيار) كتبت بهذه الجريدة أن «الانسحاب الأميركي من أفغانستان يعني عودة (القاعدة)»، وفي 17 يونيو أعلن البنتاغون عبر وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، أن الجماعات الإرهابية المتشددة كتنظيمي «القاعدة» و«داعش» إلى أفغانستان ستعود خلال عامين، لسنا أعلم من البنتاغون، ولكننا نعرف جيداً هذه الحركات وأصولها وعقدها وجذورها ونمسك بتلابيب طبائعها.
أتمنى لرواد فكرة «ما بعد الإسلاموية» أن يصغوا إلى هدير الأصوليات القادم من وراء الكهوف والجبال.. «طالبان» الآن تسيطر على ثلث أفغانستان، و«القاعدة» تحتفل بالنصر على الأميركي، وتقرع طبول العودة إلى الميادين، هذه وجهة نظرٍ واقعية، ولتعلمن نبأه بعد حين.