لحسن حداد
برلماني ووزير مغربي سابق
TT

النموذج التنموي الجديد بالمغرب... أوجه الابتكار ومواطن القصور

تقرير «لجنة النموذج التنموي» الجديدة الذي قدمه شكيب بنموسى إلى الملك محمد السادس يوم الثلاثاء 25 مايو (أيار) الماضي، هو حصيلة أشهر عدة من التفكير والنقاش والتفاعل مع مختلف الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والمدنيين على المستوى الوطني والجهوي والمحلي.
لا يمكن نكران وجود رؤية ومقاربة نسبياً منسجمة وجملة من الأفكار المبتكَرة هنا وهناك. لهذا استأثر باهتمام الفاعلين والرأي العام على حد سواء.
وليس من المُستبعَد أن تجد بعض أفكاره مكاناً لها في برامج الأحزاب السياسية، وهي في خضم التحضير للانتخابات المقبلة المزمع تنظيمها في سبتمبر (أيلول) المقبل.
تبدو فكرة «ميثاق التنمية» بوصفه إطار عمل توافقي طويل الأمد يُستخدم مرجعيةً لتنسيق توالي السياسات العمومية المرتبطة بحكومات معينة، جديرة بالتوقف عندها ومناقشتها. هكذا سيصبح هذا الميثاق، إذا تمَّ تبنّيه، نبراساً يحافظ على التوجه العام ويتجاوز الانقسامات السياسية ومختلف المقاربات الحكومية المحدودة في الزمن الانتخابي... قد يكون التنفيذ مختلفاً، ولكن المسار والتوجه يظلان ثابتين، مع إجراء تعديلات وملاءمات هنا وهناك للتكيف مع الطوارئ التي ستظهر في محيط التنمية، وكذا المستجدات التي ستحصل إبان التنفيذ والتفعيل.
يقترح التقرير كذلك آلية للتتبع يرأسها ملك البلاد تصلح لرصد مدى التقدم في التنفيذ على المديات: القصير، والمتوسط، والطويل؛ نظراً لأن الهدف المتوخى من النموذج هو إحداث طفرة نوعية وتغيير جذري في كيفية تدبير التنمية، فمن الطبيعي جداً أن يكون الملك، بحكم ضمانه استمرارية الدولة حسب مقتضيات الدستور، هو من يسهر على مدى التقيد بأهداف الميثاق والالتزامات الواردة فيه، ورصد التقدم، وضمان تذليل العقبات في حال وجودها.
يوصي خبراء التدبير الاستراتيجي في مجال التنمية بمراقبة المؤشرات وإجراء التقييمات اللازمة للوقوف عند أسباب التعثر وعوامل النجاح؛ بالإضافة إلى ذلك، يوصون برصد التحولات التي تقع في محيط التنمية للتأكد من استمرار الفرضيات التي بنيت عليها البرامج كما هي. إنْ تَغَيَّر محيط التنمية، وهذا شيء وارد على مَرِّ 15 سنة (المدة التي وضعتها لجنة النموذج التنموي لتحقيق الأهداف المنشودة)
فإن ذلك يُحتِّم علينا مراجعة الفرضيات وتغييرها لملاءمتها مع الواقع الجديد. ومع ذلك، فالأهداف تبقى هي هي ولا يتم تغييرها إلا إذا حدثت رجّة كبيرة في محيط التنمية من قبيل جائحة ذات أبعاد كونية كما هو الحال الآن مع «كوفيد19».
وضع التقرير أهدافاً مرقمة تبدو واقعية وقابلة للتحقيق؛ وهي في الحقيقة مؤشرات دقيقة تعطي إمكانية رصد الإنجاز بطريقة منتظمة. يمكن لقطاعات مختلفة أن تضع «معالم» وتحديات إنجاز مرحلية يجب تحقيقها للتأكد من السير على طريق الإنجاز القويمة، وهذا أمر ضروري يعطي إمكانية تقسيم الهدف الأسمى إلى مراحل، ورصد الإنجاز، وإجراء التقييم لمعرفة العراقيل وأسباب التأخر.
وضع التقرير أيضاً رهانات استراتيجية لـ«مغرب الغد» معبراً عنها من خلال التركيز على البحث الموازي للتدخل العملي على المستوى الترابي، والطاقة والخفض من انبعاثات الكربون، والمنصات الرقمية، وتنويع مصادر التمويل، ودعم وتطوير علامة «صُنِع في المغرب». إنها اهتمامات شغلت الطبقة السياسية لمدة من الزمن، لكن الجديد هو ترتيبها بشكل مُبتكَر يتمحور حول طموحات الازدهار والكفاءة والشمولية والتضامن والاستدامة والجرأة، والتي، في رأيي، تُشَكِّل أسسا جديدة لمغرب أكثر تقدماً وأكثر إنصافاً من ذي قبل.
من جانب آخر؛ أعتقد أن التقرير لم يتطرق بشكل كاف ومستفيض لبعض إخفاقات سياسات المغرب التنموية على مدى العقدين الماضيين، وكيفية تدليل العقبات التي ستظهر على مدى السنوات الخمس عشرة المقبلة.
توفَّق التقرير في إجراء تشخيص دقيق لأوجه النقص والضعف في منظومة الحكامة بالمغرب؛ كما تحدث عن ضرورة وضع نموذج متجدد لحكامة المؤسسات العامة والمؤسسات التكوينية والإدارة، لكنه لم يقدم رؤية قوية ومتماسكة ومستديمة للإصلاح الضروري لنظام الحكامة بشكل كلي.
والحكامة الجيدة تعني كيفية تجنب تداخل الأدوار بين الفرقاء، وإشكالية عدم التحكم في الموارد المالية والبشرية واللوجيستية من طرف الحكومة والمنتخبين، وغياب التكامل والتنسيق بين المتدخلين، والعراقيل الإدارية، والنفقات غير المدرجة في الميزانية، والغموض في صنع القرار، وتحديد صلاحيات كل المتدخلين على المستوى الوطني والترابي.
يتحدث التقرير عن هذه الجوانب، ولكن من دون تطوير آليات مبتكَرة من المحتمل أن تُحدِث تحولات حقيقية في مجال تدبير التنمية. كما أنه تحدث عن إشراك المواطنين، ولكن من دون التفكير في الآليات الكفيلة بتحقيق ذلك. وهذه الآليات هي: ميكانيزمات إشراك المواطنين، ومساهمتهم المباشرة في التسيير من خلال الموازنات التشاركية، والاستشارات العمومية حول البرامج والمشاريع والسياسات المحلية، ومراقبة السكان والمجتمع المدني تنفيذ المشاريع، وأنظمة تدبير الشكاوى والمظالم.
من الغريب كذلك أنه من ضمن الموضوعات التي جرى تكرارها في التقرير هو إحساس كثير من المواطنين بالخوف من عدم سيادة القانون، وتراجع منسوب الحريات، وتدهور الثقة بالمنظومة القضائية... هذه أمور وردت في التشخيص، لكنه لم يقترح حلولاً أو أفكاراً لتجاوزها. ربما لأن اللجنة المعنية لا ترغب في الخوض في مجال الإصلاحات الدستورية، والتي كان من شأنها، إن قامت بذلك، أن تقترح تغييرات مطلوبة من الرأي العام والفرقاء السياسيين على مستوى الحكامة والفصل بين السُلَط وتكوين الحكومة.
كما أن التقرير لا يجيب عن السؤال المتعلق بدور رأس المال الثابت وغير المادي في التنمية.في الواقع، إن جميع الإجراءات التي يقول بها التقرير تصب في اتجاه امتلاك مزيد من الوسائل لتمويل الاقتصاد، ولكن بصرف النظر عن رفع مشاركة المرأة إلى 46 في المائة (بدلاً من 22 في المائة حالياً)، ليس هناك الكثير مما قيل حول رأس المال الاجتماعي والمؤسسي، واقتصاد المعرفة، والتشغيل، بوصفها رافعات (غير مادية) للتنمية أيضاً. إن التقرير يتحدث عن ذلك، ولكن ليس بطريقة منهجية ومتماسكة.
وأخيراً، تتمثل الأسباب الحقيقية لتأخر السياسات العمومية في تحقيق النتائج المرجوة في التصور الأصلي والافتراضات الأساسية التي اعتُمدت خلال فترة «ازدهار» الرؤى القطاعية بين عامي 2000 و2007 (الصناعة، والسياحة، والصناعة التقليدية، والرقمنة، والخدمات اللوجيستية، والبنية التحتية... إلخ).يجب أن نعود إلى هذه الفرضيات الأولية، ونفككها، ونفهم حدودها وافتقارها للواقعية، لفهم التعثر الذي وقع إبان تنفيذها في السنين الموالية.