يبدأ الرئيس الأميركي جو بايدن هذا الأسبوع زيارته الخارجية الأولى منذ أن تولى رئاسة الولايات المتحدة في يناير (كانون الثاني) الماضي. تنفس الساسة البريطانيون الصعداء عندما اختار بايدن بلدهم ليكون محطته الأولى في جولته الأوروبية، بعد أن خشي البعض من تأثير علاقة رئيس الوزراء بوريس جونسون الحميمة مع سلف بايدن، دونالد ترمب، على علاقة البلدين بعد ترمب. إلا أن «العلاقة الخاصة» التي تربط الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تاريخياً ما زالت قوية وأثبتت أنها أقوى من تأثير سياسيين عابرين عليها، كما أن الملكة اليزابيث الثانية ستستقبل بايدن في أول لقاء لها مع مسؤول خارجي منذ وفاة زوجها الأمير فيليب.
لقاءات بايدن في المملكة المتحدة مع الملكة اليزابيث وجونسون تستبق مشاركته في قمة الدول السبع، وهي المجموعة التي تمثل رؤية مشتركة بين دول تمثل بشكل كبير «الغرب». ويلتقي بايدن قادة الدول السبع، على رأسهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، قبل أن يتوجه إلى بلجيكا لحضور قمة حلف الشمال الأطلسي، ومن المرتقب أن يلتقي عدداً من القادة هناك، بمن فيهم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.
يرغب بايدن خلال هذه اللقاءات أن يثبت دور بلاده في قيادة حلف شمال الأطلسي والدول السبع بعد سنوات من الاضطرابات في عهد ترمب وفي السنوات الأخيرة من إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما الذي بدوره أيضا أراد أن تتراجع بلاده عن دور القيادة العالمية. إلا أن هذه اللقاءات، على أهميتها، تستبق لقاءً تاريخياً بين الرئيس الأميركي ونظيره الروسي فلادمير بوتين في 16 يونيو (حزيران) الجاري. وهذا اللقاء سيحدد للعالم كيف ينوي بايدن التعامل مع الخصوم، وخاصة الدول الكبرى التي لا تتقبل فكرة انفراد الولايات المتحدة بـ«قيادة» العالم.
كان بايدن قد أعلن فور فوزه بالانتخابات الرئاسية أن «أميركا عادت»، في إشارة إلى التخلي عن سياسات ترمب الانعزالية. لقد قطع بايدن وعداً بعودة واشنطن إلى العمل الجماعي مع الحلفاء، خاصة الأوروبيين الذين يعتبرون الأقرب إلى سياساته وطريقة تفكيره. ومن بين الخطوات التي اتخذها بايدن لإظهار جديته في العودة إلى المسرح الدولي إعلانه إعادة تمويل الولايات المتحدة لوكالات الأمم المتحدة مثل منظمة الصحة العالمية و«الأنروا».
وينتظر الحلفاء الأوروبيون ثمار التغيير الأميركي خلال زيارة بايدن ليس فقط للمملكة المتحدة وبلجيكا، بل أيضاً خلال زيارته لسويسرا حيث يلتقي نظيره الروسي.
اختيار جنيف المحايدة لعقد اللقاء المرتقب يدل على مدى التوتر بين الطرفين وأهمية الدلالات المرتبطة باللقاء. موقع محايد يعني أنه لم يتنازل أي من الرجلين لعقد اللقاء، ويأتيان من موقع قوة نسبية لهذه القمة بعد تبادل العبارات النارية بينهما قبل أشهر قليلة. أول لقاء بين بايدن وبوتين وجهاً لوجه سيكون فرصة لـ«حوار» بين الرجلين حول نقاط مشتركة تهمهما. بالطبع، العمل على مواجهة وباء «كوفيد - 19» وتعافي العالم من تبعاته على رأس الأجندة ولكن هناك قضايا محورية تقليدية مطروحة أيضاً، تشمل أمن أوروبا وسوق الطاقة.
قمة جنيف تأتي بعد نصف قرن من لقاء تاريخي جمع بين الرئيس الأميركي آنذاك جون كيندي ورئيس الاتحاد السوفياتي نيكيتا خروشوف. ففي 4 يونيو 1961 التقى كيندي وخروتشوف في فيينا في أوج الحرب الباردة، وكان اللقاء الأول والأخير بينهما. كان لقاء خروشوف السياسي الروسي المخضرم بسياسي شاب نسبياً من أميركا، فجاء الرئيس السوفياتي حينها مستعداً للضغط على كيندي الذي كان قد شغل منصبه منذ أشهر قليلة. ويعتبر ذلك اللقاء من إخفاقات كيندي السياسية؛ إذ لم يكن مستعداً لمواجهة خروشوف الذي تحداه، واستطاع أن يحرجه في تصريحات تم تسريبها أظهرت ارتباك كيندي.
بعد خمسين عاماً الأمور تختلف كثيراً. الاتحاد السوفياتي انهار وعهد الحرب الباردة انتهى معه. كما أن بايدن لديه خبرة أكثر بكثير من الراحل كيندي ويعتبر من أكثر الرؤساء الأميركيين تمرساً في السياسة الخارجية بعد سنوات من العمل في لجنة العلاقات الخارجية لمجلس الشيوخ وبعد أن كان نائباً للرئيس أوباما. ولكن روسيا اليوم استطاعت أن توسع من نفوذها في أوروبا الشرقية أكثر من أي وقت مضى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، كما أن موسكو تبني تحالفات مع دول حول العالم، بما في ذلك دول عربية عدة.
في مقابلة أجراها موقع «أكسيوس» الإخباري مع وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن ونشر يوم الاثنين، شدد بلينكن على أن بلاده تسعى إلى «علاقة مستقرة قابلة للتنبؤ.. ولكن أوضحنا إذا اختارت روسيا أن تتصرف بطريقة عدوانية تجاهنا أو تجاه شركائنا، سنرد على ذلك». وتحدث بلينكن عن سعي واشنطن لـ«الاستقرار الاستراتيجي»، قائلاً إن أفضل طريقة للتوصل إلى ذلك هو «لقاء الرئيسين وجها لوجه». بدوره، قال كيريل دميترييف، رئيس الصندوق الروسي السيادي، في مقابلة مع قناة «سي إن بي سي» إن هناك «نقاط خلاف حقيقية، ولكن هناك الكثير من سوء التفاهم الذي يحتاج إلى التواصل لحله» بين البلدين. وبينما تسعى روسيا لتخفيف العقوبات الأميركية عليها، تسعى الولايات المتحدة لإظهار قدرتها على تخفيف الاحتقان في دول مثل أوكرانيا وبيلاروسيا، مما يؤكد مقولة بايدن بأن «أميركا عادت».
أما ملفات الشرق الأوسط، فهي شائكة. من جهة، هناك موضوع سوريا الذي يختلف الطرفان عليه من كل الجوانب وفي جوهره إصرار موسكو على دعم الرئيس السوري بشار الأسد وإصرار واشنطن على رفض أي تصور له في السلطة. أما الملف الإيراني، فكلا البلدين يرغبان في التوصل إلى اتفاق نووي جديد إلا أن الولايات المتحدة بحاجة أكبر لهذا الاتفاق؛ إذ إن بايدن هو الذي أعلن عن رغبته في التوصل إليه مرة تلو الأخرى. بالنسبة للجانب الروسي، العلاقات مع طهران مستمرة بالاتفاق أو بدونه. أما الملفات العربية الأخرى، مثل فلسطين واليمن وليبيا، فروسيا تواصل عملها الأحادي بعيداَ عن الجهود الأميركية التي تتبلور أكثر كتصريحات من خطوات فعالة.
وربما البلد الذي يمكن لكل من بايدن وبوتين التشاور حوله هو أفغانستان، حيث تستعد الولايات المتحدة لسحب قواتها من أفغانستان بعد عشرين عاماً من القتال. مثلما فشل الاتحاد السوفياتي في بسط سيطرته على هذا البلد المعقد، فشلت الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها البعيدة الأمد فيه حتى وإن كانت قد قلصت نفوذ «القاعدة». والملف الأفغاني أحد الملفات الذي يمكن أن يستفاد العالم من تعاون أميركي – روسي فيه، أو أن يخسر العالم الكثير إذا تواجه البلدان حوله مجدداً.
فكيف ستكون «عودة واشنطن» للساحة الدولية خلال المرحلة المقبلة، وكيف ستتعامل موسكو مع هذه العودة؟ هذه أسئلة ينتظر أجوبتها المسؤولون حول العالم.. وخاصة في الصين التي تراقب وتخطط بهدوء.
8:2 دقيقه
TT
«أميركا عادت»... بايدن بين الحلفاء الأوروبيين والخصم الروسي
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة