سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

«في منها على وديع»

منذ أن بدأت الصحافة في العالم العربي، قبل نحو مائتي سنة، كانت خالية من آفاقها وألوانها، غارقة في السياسة وهمومها، غير عابئة بألوان الحياة الأخرى، خصوصاً ألوان الحياة الأخرى. وكانت هناك نظرة فوقية إلى الشؤون «الصغيرة» في الصحف والمجلات. فالصحافي الكبير واحد من اثنين، إما يكتب في السياسة أو في الأدب. والسبب العام أننا كنا دولاً تسعى إلى الاستقلال والحرية، وشعوباً فقيرة، والعلم قليل، وأي هم غير يومي هو ترف لا وقت له.
تقدمت الصحافة وتنوعت مع تقدم المجتمعات. دخلت الصحافة عالم الفنون والمسرح والعلوم والطب والرواية والحياة الاجتماعية. وظهرت في مصر مجلات متخصصة في التاريخ كـ«الهلال»، أو في العلوم كـ«المقطم»، أو في السينما كـ«الكواكب». وصارت لنقاد الفن شهرة ومكانة كتاب السياسة. وتزعّم محمد التابعي المدرسة الصحافية متألقاً بين النجوم بدل السياسيين. ولم تعد مصر هي فقط مصطفى النحاس ومكرم عبيد، بل صارت «الست» فيها أم كلثوم، و«الألق» أسمهان، والبك يوسف وهبي. وتداخل المجتمع الفني والصحافي مع مجتمع الباشوات. وصار رئيس تحرير «الأهرام» يحمل لقب باشا.
لكن الصحافة السياسية ظلت هي الطاغية مثل السياسة نفسها. أمّة مشغولة بالهمّ السياسي، قبل وبعد الاستقلال. لذلك، ظلت الصحافة أقل تقدماً وشمولية من صحافة الغرب، وخصوصاً أقل مهنيّة وتنويعاً. دفعني إلى كل هذه المقدمة تحقيق في «الإيكونومست»، كبرى مجلات بريطانيا، حول بائعي الغاز في الأردن الذين تستفيق عمان في السادسة صباحاً على موسيقى الجوّالين منهم التي تعزف مقطوعة لبيتهوفن اسمها «إلى إيليزه» (for Elize).
تصور بيتهوفن ينادي على قوارير الغاز بين جبال عمان ما بين «الأخضر» و«النزهة». لكن أهالي العاصمة يفضلون هذا الصوت الطالع من شاحنات الغاز على دق القوارير كما كان يحصل في الماضي. غاز و«إلى إيليزه». هذه هي الصحافة التي لم تبلغها. سوف يمر بجبال عمان السبعة ألف صحافي عربي من دون أن يعطوا أهمية لهذه الصورة اللافتة. ويتساءل المرء: من هو الرجل الذي خطر له أن يجمع بين شاحنات الغاز وأرق وأقصر مقطوعات لودفيغ فان بيتهوفن؟
أما أنا، فقد حاولت أيام الشباب (ق. م) أن أوظف عبقرية الهرّ لودفيغ في مغامرة عاطفية باءت بالفشل كالمعتاد. فقد تعرفت إلى صبية حسناء «بسقط اللوى بين الدخول فحومل»، وحاولت أن أبهرها بما حفظت من شعر، فما لانت. وذات يوم، حملت إليها من باريس علاقة مفاتيح تعزف مقطوعة «إلى إيليزه» معللاً النفس بسحر لودفيغ، وبأن تتأثر صاحبة الحُسن بثقافتي الفخمة في الموسيقى الكلاسيكية، وتراث بافاريا في القرن التاسع عشر. راحت تصغي إلى الموسيقى وعلى وجهها علامات، ثم أوقفتها وسألتني: «قولك في منها على وديع الصافي».