جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

قرصنةٌ جوّية وليست الأخيرة

قبل أن تنفذ الأجهزة الأمنية في جمهورية روسيا البيضاء، بموافقة من الرئيس ألكسندر لوكاشينكو، عملية القرصنة الجوية مؤخراً، ضد طائرة مدنية كانت تعبر أجواء بلادهم، ويجبروها على الهبوط في مطار العاصمة مينسك، بغرض القبض على صحافي معارض وصديقته كانا على متن الطائرة القادمة من أثينا والمتجهة إلى فيلنوس عاصمة لاتفيا، سبقتهم إلى ذلك دولتان: فرنسا عام 1956، وليبيا عام 1971.
في العملية الأولى، اعترضت طائرات فرنسية مقاتلة يوم 22 أكتوبر (تشرين الأول) 1956 طائرة تابعة للخطوط الجوية المغربية على متنها خمسة من قادة جبهة التحرير الجزائرية، ومن ضمنهم رئيسها السيد أحمد بن بله، كانوا قادمين من الرباط بالمغرب، بعد اجتماعهم بالعاهل المغربي الملك محمد الخامس، رحمه الله، وفي طريقهم إلى تونس للقاء الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، رحمه الله، وبغرض وضع حجر أساس اتحاد شمال أفريقيا بين تونس والجزائر والمغرب. العاهل المغربي استقل طائرة خاصة، وسافر جواً إلى تونس عبر الأجواء الجزائرية، في حين أن القادة الجزائريين حرصاً على أمنهم، قرروا عدم السفر عبر الأجواء الجزائرية. كان طاقم طائرتهم المغربية متكوناً بالكامل من فرنسيين. الحذر الذي أبداه القادة الجزائريون لم يجدِ نفعاً، لأن المخابرات الفرنسية كانت ترصد كل تحركاتهم، وتمكنت من إجبار قائد الطائرة على تغيير مسارها والهبوط في الجزائر. من ضمن المسافرين على تلك الطائرة صحافيان فرنسيان استدعيا بغرض تقديم تغطية صحافية للحدث، ومريض مغربي كان في طريقه لإجراء عملية جراحية بأحد مستشفيات تونس. بعدها نقل القادة الخمسة إلى فرنسا، وظلوا في الاعتقال حتى شهر مارس (آذار) 1962، أي أربعة أشهر قبل نيل الجزائر استقلالها.
عملية القرصنة الجوية الثانية حدثت يوم 22 يوليو (تموز) 1971، وخلالها أجبرت السلطات الليبية طائرة ركاب مدنية قادمة من مدينة لندن، عن طريق روما، وفي طريقها إلى الخرطوم، على الهبوط بمطار بنينة في مدينة بنغازي. من ضمن المسافرين على متنها كان هناك اثنان من ضباط الجيش السوداني هما العقيد بابكر النور والرائد فاروق حمد الله، حيث طلب منهما رجال الأمن الليبيون مغادرة الطائرة، ثم سمحوا لبقية المسافرين بمواصلة الرحلة. وما حدث هو أن انقلاباً عسكرياً بقيادة الضابطين ضد الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري وقع في الخرطوم، ويبدو أن الانقلابيين تمكنوا من السيطرة على العاصمة. لكن الانقلاب أجهض بعد ذلك، نتيجة التدخل الليبي في عملية القرصنة الجوية. وأرسل الضابطان على متن طائرة خاصة إلى الخرطوم حيث أعدما في الحال. ويقول شهود عيان كانوا على متن تلك الرحلة، إن قائد الطائرة بعد صدور الأوامر إليه من الجهات الأمنية الليبية بتغيير سير الرحلة والهبوط في مطار بنينة، غادر غرفة القيادة وتحدث مع الضابطين السودانيين وأبلغهما بالأمر، فطلبا منه ألا يقوم بأي عمل من شأنه أن يُعرّض حياة بقية المسافرين للخطر.
هناك تشابه ملحوظ بين عملية القرصنة في ليبيا والأخيرة في روسيا البيضاء. ففي الحادثتين كانت الطائرتان في طريقهما إلى مغادرة أجواء البلدين، وأمرتا بالعودة. وفي كلتا الحالتين كانتا مصحوبتين بطائرات مقاتلة حتى هبوطهما بالمطارين. وفي الحالتين قامت الأجهزة الأمنية في البلدين باعتقال مسافرين على متن الرحلتين، ثم سمحت للطائرتين، بعد فترة توقف قصيرة، بمواصلة استئناف رحلتيهما. في العملية الليبية كان المعتقلان ضابطين سودانيين، وفي العملية الثانية كان المعتقلان صحافياً شاباً معارضاً من روسيا البيضاء وصديقته من روسيا.
ربما كان الندم الذي اعترى القيادة الليبية، فيما بعد، على تدخلها هو الفارق الوحيد بين العمليتين، ذلك أن الصداقة التي كانت تجمع بين العقيد القذافي والرئيس النميري سرعان ما تحولت إلى عداوة، لأسباب سياسية عديدة، لسنا هنا في مجال التعرض لها. لكن من الممكن الإشارة إلى أن بداية ظهور تلك العداوة إلى العلن، كان حينما منعت السلطات السودانية طائرة شحن عسكرية ليبية محملة بالسلاح والجنود من عبور أجوائها متجهة إلى أوغندا لتقديم المساعدة لرئيسها وقتذاك عيدي أمين. ذلك المنع، وعودة الطائرة إلى قاعدتها في ليبيا، أغضب العقيد القذافي، وعبر عن ذلك الغضب بإرسال برقية إلى الرئيس السوداني متكونة من كلمتين فقط: «سامحكم الله».
حوادث القرصنة الجوية الثلاثة كان لها أصداء سياسية كبيرة. وصدرت ضدها بيانات بالإدانة من مختلف قارات العالم، لكن لا البيانات المنددة، ولا الإدانات الشاجبة، أدت إلى تراجع مرتكبيها، أو تقديمهم الاعتذار عما قاموا به من انتهاك لقوانين الطيران المدني. كما أنها لم تؤدِ إلى إنقاذ الضحايا من الموت أو الاعتقال. القرصنة الجوية الأخيرة في مطار مينسك، على سبيل المثال، ربما تختلف قليلاً لأن دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا أغلقت مطاراتها أمام رحلات شركة الطيران التابعة لروسيا البيضاء. وطلبت من شركاتها الجوية تفادي المرور عبر أجواء روسيا البيضاء، إلا أن الرئيس لوكاشينكو لم يبالِ بردود الفعل تلك، وهدد في خطاب ألقاه بعد الحادثة بإغراق أوروبا بالمخدرات وبالمهاجرين في حالة فرضها لعقوبات ضد بلاده.
لا أحد يعرف أين ومتى ستكون القرصنة القادمة.