مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

نارك ولا جنّة هلي

قبل 15 سنة تقريباً كنت في مدينة (سان فرانسيسكو)، ورغم جمال المدينة وطابعها الخاص، فإنني شعرت بالانزعاج من الصخب الذي يصدر من بعض الأماكن المجاورة للفندق، وأحسست حقاً أنني في حاجة إلى الهدوء والراحة، وحكيت عن رغبتي تلك لصديق درس وتخرج وهو يعمل هناك متدرباً، وعندما أحس بحالتي أشفق عليّ وقال: ولا يهمك أنا سوف آخذك إلى أهدأ مكان لا تسمع فيه حتى ولا (صريّخ ابن يومين)، وشكرته شكراً جزيلاً قائلاً له: (دخيلك ايدي بزنارك).
ويا ليتني تريثت وسألت وتقصّيت قبل أن أوافق (وأطب على مناخيري)؛ لأنني مثلما يقولون: (هربت من القوم وطحت بالسريّة)، فقد أخذني إلى منطقة يقال لها: (كواما)، وهي تقريباً من ضواحي سان فرانسيسكو، وتبلغ مساحتها 6 كيلومترات مربعة تقريباً، ولم أمكث فيها سوى يومين وفي اليوم أصابني؛ لأنني عندما أسير لا أشاهد إلا القبور.
وعندما اتصلت بصديقي تليفونياً أشرح له ما أصابني من ذلك الهدوء المطبق قائلاً له: أرجوك أرجعني إلى مدينة الصخب فنارها ولا جنة هذا الهدوء الذي لم يمرّ عليّ مثله في حياتي. عندها أخذ (يكركر)، ومن ضحكاته تأكدت أنه أعطاني (مقلباّ) غير محترم، مستغلا طيبتي أو بمعنى أصح سذاجتي وغبائي.
وعرفت منه أن (كواما) تلك تعتبر من أهدأ الأماكن في العالم كله لا في أميركا وحدها، والسبب في هذا الهدوء القاتل بها، أن سكانها هم (1.500.000) من الأموات، مقابل (1800) فقط من الأحياء، وهم الذين يقومون على صيانة هذه المقبرة الشاسعة، ويستقبلون زوارها من العائلات التي تضع الزهور على قبور أجدادها وجداتها، وبدأ يحكي لي عن تاريخها (المشرّف أو غير المشرّف) – لست أدري - فقال:
السبب في هذا العدد المهول من المقابر، أنه في القرن التاسع عشر، ومع اكتشاف الذهب هناك، انكب ملايين المهاجرين على سان فرانسيسكو من كل حدب وصوب في أميركا للتنقيب، وفيهم الصالح والطالح، وكثرت العصابات وبيوت الدعارة، (واختلط الحابل بالنابل)، وبدأ بريق الذهب يخلب الألباب، وواكب ذلك القتل والسرقات وتفشي الأمراض، ومن لم يمت بالقتل مات بالأمراض (تعددت الأسباب والموت واحد)، وبعد أن نضب الذهب، أغلقت المقبرة أبوابها عام 1900.
والحمد لله أنني عدت إلى مدينة الصخب لأغرق وأستمتع به، وبين كل ساعة وأخرى أضرب رأسي بالحائط، لكي أتأكد أنني ما زلت على قيد الحياة.