تركي الدخيل
TT

الصَّبَّان... الوزير الجواد والأديب الرائد!

في الناسِ من يَسلكُ الطريقَ إلى غايته، فَيَصِلُ، أو لا يَصِلُ، وفيهم من لا يَجِدُ الطريق، فيَقْعُدُ... ولكن فيهم، من لا يَجِدُ طريقاً، فيُمَهِّدُهُ، ويَشُقُّهُ لِمَن وراءَه.
حديثنا اليوم، عن رائد قديم، من الرواد السعوديين البارزين، وهو الشيخ محمد سرور الصَبَّان، (1895 - 1972). وخلافاً لمن كانت ريادته في بابٍ واحدٍ، فقد تعدَّدت أبواب ريادة الصَبَّان، رحمه الله، فهو رائدٌ في الأدب والشعر، وفي الجود والنُبل، ودعم المثقفين، ونشر الكُتب على نفقته، كما برز في التجارة والمالية، والاهتمام بشؤون المسلمين!
وُلِدَ بمدينة صغيرة، وادعة، على ساحل البحر الأحمر، هي «القنفذة». كان والده يمتهن التجارة هناك؛ يُصَدِّرُ، ويستورد البضائع، مع السواحل الأفريقية. وفي كنف تلك الأسرة الثرية، عاش الصبي سنواته الأربع الأولى، بعدها انتقلت الأسرة إلى جدة، ليلتحق الصبي بأحد كتاتيبها، متعلماً مبادئ القراءة والكتابة والحساب، وبسبب الاضطرابات السياسية آنذاك، انتقلت الأسرة بعد سنوات، ثانية إلى مكة؛ حيث التحق الفتى بإحدى المدارس الابتدائية، ولم يكن ما يتلقاه التلاميذ بالمدرسة، يكفي، ليُشبع نهم صاحبنا إلى مزيد من المعرفة، فلم يألُ الفتى الألمعيُّ جهداً، في تعليم نفسه بنفسه، فانكبَّ على القراءة، واتخذ الكِتاب خليلاً.
يفرغ الفتى، من دراسته المحدودة، فيتعين موظفاً ببلدية مكة، التي كانت حينها، تحت الحكم العثماني... كاتباً، فمحاسباً، قبل أن ينتقل، إلى العمل الخاص، ليصبح واحداً من رجال الأعمال اللامعين في البلاد، يوم لم يكن حينها بنك، ولا تمويل، ولا بنية اقتصادية حديثة.
أسس الصَبَّان «المكتبة الحجازية»، أول مكتبة تجارية بمكة، فصارت ملتقى المثقفين، ومنتدى القراء الشباب، الراغبين في تغذية عقولهم، وتوسيع مداركهم، كما أسس - مع أخويه - شركة الفلاح للسيارات، التي تنقل الحجاج، بين مكة والمدينة، وأسس «الشركة العربية للتوفير والاقتصاد»، و«الشركة العربية للصادرات»، التي أوصلت منتجات البلاد التقليدية للعالم العربي، وأسس شركة «مصحف مكة» شراكةً مع تجار، فاشتروا مطبعة أميركية، وأُسندت كتابة المصحف للخطاط البارع محمد طاهر الكردي، وكانت لطباعة هذا المصحف، أصداء إيجابية كبيرة، في العالم الإسلامي.
وأسس الصَبَّان أيضاً، شركة ملح وكهرباء جازان، والشركة العربية للطبع والنشر، فأصدرت صحيفة «صوت الحجاز»، التي صارت صحيفة «البلاد».
لم يكن الصَبَّان مجرد رجل أعمال ذكي، يقتنص الفرص حين تلوح، ويصنعها إن غابت، بل كان، إضافة إلى ذلك، رجل خيرٍ وإحسانٍ، إذ هو أول رئيس لجمعية الهلال الأحمر السعودي، وأنشأ مؤسسات خيرية كثيرة.
في ذلك الوقت كان الملك المؤسس، عبد العزيز بن عبد الرحمن، يبحث عن طاقات شابة تنهض ببلادٍ، تضع قدمها في أول طريق التحديث، وليس في الدولة كلها إلا وزارة المالية التي ينهض بها الوزير عبد الله السليمان، وعلى عاتقه القيام بأدوار كل الوزارات، فهي الوزارة الوحيدة. السليمان اختار الصَبَّان ليرأس قسم التحريات في وزارة المالية. فما لبث أن ظهر أثر الصبان وجِدِّهِ وتأثيره، وهو ما دعا الوزير السليمان ليعينه بعد فترة قصيرة، مديراً عاماً لـ«وزارة الوزارات»؛ وزارة المالية.
كان محمد سرور الصَبَّان، رائداً في قومه، نَدِيَّ اليدِ، كريم العطاء فشمل برعايته عدداً كبيراً من المثقفين السعوديين، الذين كانوا يعدونه أستاذ الجيل، وراعي النهضة الأدبية، وكان معروفاً، بهذه السمة، ليس في أذهان المثقفين السعوديين وحسب، بل في أذهان كبار الأدباء في الشطر الأول من القرن العشرين، الذين كان الصَبَّان يُوادّهم، ويُراسلهم.
عَلَّامَة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر، عندما بلغه موت الصَبَّان، قال: «ذُهِلتُ وبَقِيتُ واجماً بُرهَةً، ثم تمثلت بقول الشاعر:
ولكن الرزية فقد شهمٍ
يموت بموته خلقٌ كثيرُ».
يواصل الجاسر الحديث عن الصبَّان: «لقد كان رحمه الله، يعول عالَمَاً عظيماً من الناس، من مختلف طبقاتهم، فيهم العلماء والأدباء والشعراء، وفيهم ذوو الحاجة من الفقراء، وطالبي الفضل»، مشيراً إلى أن الشيخ محمد سرور، كان «مُجِلّا للعلماء، مُحترماً لهم، كثير العطف عليهم». وأن الصبَّان «كما قال الأستاذ عبد القدوس الأنصاري عنه: «بكتابيه (أدب الحجاز)، و(المعروض)، وبتشجيعه المادي والأدبي للأدباء، وبمكتبته التي فتحها بمكة لناشئة الأدب - يعتبر الرائد الأول لحركة الأدب الحديث في البلاد».
كان الصبّان مؤمناً بقول صديقه، زهير بن أبي سلمى:
ومن يَكُ ذا فضلٍ فيبخل بفضلِهِ
على قومِه، يُستغنى عنهُ ويُذمَمِ
بعد وفاة الملك عبد العزيز، وتولي الملك سعود الحكم، عُيَّن الصَبَّان وزيراً للمالية والاقتصاد الوطني، فقرّب المثقفين والأدباء، وكان منهم؛ حمزة شحاتة، ومحمد حسن فقي، وحسين زيدان، وعبد الوهاب آشي، وحسن كتبي، وغيرهم.
يقول الأستاذ عزيز ضياء، عن الصَبَّان: «والشّيخ؛ هو اللّقب الذي ندري كيف اصطلحنا على أن نُعرِّف به محمّد سرور الصَبَّان، فقد كُنّا ونحن في عنفوان الشّباب وفي فورة التحفّز نقول فيما يدور بيننا مِنْ أحاديث؛ قال الشّيخ، وقدم الشّيخ، وأخطأ الشّيخ، وأسرف الشّيخ. وحيث أصف الشّيخ بأنّه ظاهرة (نادرة) فإنّي أحاول أن أكتفي بهذا الوصف عن كثير مِنْ مناقبه وسجاياه».
وزارة الصَبَّان للمالية، كانت في مرحلة حرجة، فالسعودية تسرع نحو التحديث، وإنشاء الوزارات والإدارات، وتسارع لتعيين موظفيها، وهذه مرحلة غير مرحلة المالية في عهد السليمان، كما أن عدم ضبط المصروفات أدى إلى أزمة اقتصادية، لم يستطع الوزير حلّها، وحين كان مسافراً للخارج، عزله الملك فيصل من وزارة المالية؛ فارتحل إلى القاهرة، وعاش بها سنوات، قبل أن يُعيدَه فيصل إلى الوطن ثانية، ليعينه أميناً عاماً لرابطة العالم الإسلامي.
كان الشيخ الصَبَّان رجل دولة، ورجل أعمال، ورجل مبادرات مجتمعية خالدة، وكان، إضافة إلى ذلك، رجل أسرة، ثرّ العاطفة، حنون القلب، له شقيقان؛ عوض، وعبد الله، حفيّاً بهما، محبّاً لهما، وقد سبقاه إلى الدار الآخرة... مات عوض أولاً، فكان محمد يتكئ على عبد الله، ثم فُجع محمد بموت عبد الله، فقال بأسى؛ الآن انكسر ظهري!
وعلى زحام أعماله التجارية، ومسؤولياته الحكومية، وارتباطاته الاجتماعية، كان الصَبَّان يجد الوقت دائماً، ليجلس مع أبناء أخويه وبناتهما، ويستمع إلى أحاديثهم، ونكاتهم، وهمومهم الصغيرة، ليكون أباً لهم، بعدما رحل أخواه عن هذه الدنيا.
تقدمت الأيام بالشيخ محمد سرور الصَبَّان، فإذا به يكتب أبياتاً، يودع بها عمره المديد، ويرثي فيها نفسه، قائلاً...
جَلَّ الأسى وتتابعت زفراتي
ودنا المشيبُ فقلت حان مماتي
فكرت ألتمس الخلاصَ بحيلةٍ
أين الخلاصُ من القضاء الآتِي
يا أيها القدر المواتي إنني
بادي الضّنى هلا ترى نظراتِي
امنن عَلَيَّ بساعةٍ أقضي بها
حقَّ البلاد وخذ ربيعَ حياتِي!
في القاهرة، توفي الشيخ محمد سرور الصَبَّان، في 1971. ولما كان محمد سرور يبذل حفاوته للجميع، ويسقي بلطفه الكل، بنى شبكة علاقات استخدمها في رابطة العالم الإسلامي، وكان من بين أصدقائه الرئيس المصري الراحل أنور السادات، الذي أمر فوراً بنقل جثمانه للسعودية في طائرة حربية، كما أخبرني معالي الأستاذ رحاب مسعود. صُلِّي على الفقيد بالمسجد الحرام، ودُفن في مقبرة المعلاة، تاركاً وراءه ألسنةً تشهد بأنه كان رجلاً استثنائياً، وشخصاً مختلفاً، قدّم الكثير للوطن، وبذل كف السخاء ممدودة لكل طالب حاجة... ولا تزال آثاره، تعيش من بعده، في بلاده التي أحب، وعشق...
الناسُ صِنفان موتى في حيَاتِهُمُ
وآخرون بِبطنِ الأرضِ أحياءُ