محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

هل قدم ترمب خدمة للقضية الفلسطينية؟

في العمل السياسي هناك نتائج غير متوقعة أو مرتبطة بالحدث مباشرةً، طبعاً لم يقدم السيد دونالد ترمب خدمة للقضية الفلسطينية مباشرةً، ولكن في القراءة السياسية قدمها بشكل غير مباشر؛ لقد اتخذ سياسات داخلية بالغة التطرف نحو اليمين الأبيض البروتستانتي تفاعلاً مع نمو الخوف الأبيض من الملونين في الولايات المتحدة، وهذا الخوف تاريخي، ففي مرحلة سابقة (قبل الحرب العالمية الثانية) مُنع دخول أي «ملوّن أسود أو أصفر لاجئ إلى الولايات المتحدة» من أجل إبقاء اللون الأبيض سائداً. كررها السيد ترمب ضد بعض الديانات والشعوب، وفقط في مراحل احتياج الاقتصاد الأميركي إلى يد عاملة سُمح بالهجرة المؤقتة، وعلى مر العقود تكونت أقليات عرقية ودينية وألوان من البشر ونَمَت في صُلب المجتمع الأميركي ولكن في الغالب مهضومة الحقوق، ربما صيحة ترمب هي الأخيرة قبل أن تتحول الأغلبية الأميركية إلى التلون.
تلك السياسات في السنوات الأربع من فترة ترمب جعلت من كل ألوان الطيف الأميركي تتكاتف وتندفع لانتخاب ثاني رئيس كاثوليكي هو جو بايدن، ونائبة رئيس سمراء أصولها من الهند. فالتفاعل الحادث في أميركا داخلياً من ثورة «حياة السود مهمة» إلى الحياة الملونة مهمة، أيقظ في قطاعات واسعة في الولايات المتحدة، خصوصاً الشباب، المطالبة بالمساواة وسيادة حقوق الإنسان «كإنسان» في وجه التعصب الأبيض، تلك الشرائح أصبحت حساسة لأي هضم للحقوق في أي مكان على البسيطة، ومنها الحقوق الإنسانية المسلوبة من الفلسطينيين.
على مقلب آخر فإنَّ أحداث حي الشيخ جراح والمسجد الأقصى، وصواريخ الفصائل، والنشاط السياسي لعرب إسرائيل في الداخل، وإعلان المقاومة السلمية من رام الله، وعدد القتلى من الفلسطينيين ومنهم عدد كبير من الأطفال، واستخدام القوة المفرطة «وغير المتكافئة»... كل ذلك أيقظ «الروح الوطنية الفلسطينية» وتجاوبت معها تلك القطاعات الواسعة من النخب في الولايات المتحدة ذات الحساسية لحقوق الإنسان، مما أجبر الإدارة على أن تقدّم ملف فلسطين والشرق الأوسط الذي كان في مؤخرة الأولويات إلى أن يكون أولها جنباً إلى جنب مع الملف الإيراني. هذا التغير قائم على المقارنة بين المطالبة بالمساواة في المجتمع الأميركي وبين عدم المساواة أولاً في المجتمع الإسرائيلي، حيث خضع العرب في الداخل لسنوات من الحكم العسكري ثم تلتها سنوات من «العدالة المنقوصة» وهم يمثلون 20% من السكان. لم يكن هذا التغير في الرأي العام الأميركي مفاجئاً، فقد تنبّه له قبل أشهر عدد من الكتاب الفلسطينيين الذين يعيشون في الولايات المتحدة، ونظّمت جامعة «بيرزيت» ندوة عن بُعد منذ أشهر تناولت فيه هذا الملف، وقُدم اقتراح وقتها من المشاركين بضرورة التفاعل مع تلك الإمكانية الناشئة، وأحداث فلسطين الأخيرة فعّلت ووسّعت ذلك التوجه حتى أصبح الملف ساخناً في وسائل الإعلام الأميركية، وظهرت إلى السطح الممارسات العنصرية التي تمارسها دولة تتكئ في إقناع الآخرين على أنه مورس ضد شعبها في السابق عسف أعمى من قوى فاشية!
المعضلة التي يواجهها المتابع في كيفية إقناع «الأهل»، خصوصاً بعض القيادات في فلسطين ومناصريهم من أهل «العواطف»، أن يقرأ الأحداث بعين بصيرة. ما حدث في الأسابيع الأخيرة هي روح وطنية فلسطينية في الغالب يحملها شباب في الداخل الإسرائيلي وفي الجوار، غير مرتبطين مباشرةً بما تُعرف بـ«الفصائل»، والخطورة أن يدّعي أي فصيل في أي أرض فلسطينية أنه الأجدر والأولى بأن يقطف ثمار تلك الروح الوطنية. الأسهل ما هو ماضٍ والأصعب هو القادم، وهو في خطوطه العريضة كيفية استخدام ذلك التعاطف الواسع في عواصم العالم وعلى رأسها واشنطن لتحقيق تقدم سياسي له معنى للقضية لا للفصيل. طبعاً الوعي الجديد في الرأي العام الأميركي لا يسير بسهولة في التعاطف غير البصير، فهناك من يشير إلى أدبيات «حماس» المنشورة، وأن تلك الأدبيات لا تعترف بإمكانية التعايش في دولتين، كما أن الإدارة الأميركية الحالية، وإن شهرت رغبتها في حل الدولتين، فإنها ترى التعامل مع منظمة «حماس» للأسباب ذاتها أو أي فصيل آخر في الطرف التي تراه «متشدداً» في هذا الشق الفلسطيني الذي يتوجب أن يلتئم من أجل تعظيم المكاسب في ظل الظروف السياسية الدولية الراهنة. أما القول بأن فريقاً يتوجب أن يكون القائد لأنه المنتصر، فذلك وهم يتبع بعض الأوهام الأخرى التي جعلت من القضية في أوقات سابقة مطيّة «لمزايدات» يدفع فيها المواطن الفلسطيني الكثير من الدم والدموع والفقر والتهميش.
إذن، يحتاج الجميع إلى عقل سياسي يقرأ الأوضاع على الأرض كما هي بلا تضخيم ولا تهوين، لأن الرأي العام الدولي لن يبقى طويلاً مع القضية، فقد يشغله أمر أو أمور أخرى، وفي الأوساط الأميركية هي شهور فقط قبل الاستعداد لانتخابات نصفية مقبلة، كما أن العالم ينشغل بعدد من القضايا وعلى رأسها تأثير جائحة «كورونا» على الاقتصاد والسياسة العالمية. ما يُقلِق أن بعض القوى الفلسطينية بسبب عمق الجرح التاريخي، وربما بسبب فقر التسيس وضياع البوصلة تتوجه إلى لوم الآخر العربي وبعضهم يستخدم لغة مستفزّة قد تقابلها لغة من نفس نوعها من بعض الأطراف الأخرى، وفي كل ذلك استنزاف للطاقات والبقاء في نفس المكان، كتغليظ القول ضد «المطبعين» وتلك ليست أولوية من جهة، وثانياً أن الاستفادة واضحة من التطبيع، فلولا وقوف مصر بحذق دبلوماسي لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه. لقد فضّلت الولايات المتحدة وقَبِلت إسرائيل بدور مصري فعّال للوصول إلى وقف إطلاق النار والبدء في عملية البحث عن رأس جسر لحلحلة هذه القضية الوطنية والإنسانية، وواضح أن الموقف المصري يرفده موقف دولي وعربي مؤيِّد. الفكرة هنا هي تعظيم الجوامع وتقليل الاختلاف من أجل تحقيق المصالح الوطنية الفلسطينية، ولن يكون ذلك سهلاً أو يسيراً، إنما المهم هو قفل الأبواب والمنافذ على الاستخدام المعاكس لما يظهر من فرص، فإن وصل الأفرقاء إلى تعاضد وطني فلسطيني واسع مع مساندة عالمية غير مسبوقة، فقد تكون تلك أولى خطوات نزع فتيل الحرائق التي التهمت معظم طاقات دول الشرق الأوسط.
آخر الكلام:
عندما يخطئ الطبيب في التشخيص قد يصف دواء يقتل المريض، كذلك السياسي عندما يخطئ في قراءة الأحداث بواقعية ويعظّم الوهم، يحصد الخسران.