فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

اضطراب تفسير العلمنة و«توحش الأقليات»

بعد أن هدأت الأزمة التي سببها تصريح وزير الخارجية اللبناني المستقيل لا بد من دراسة أسباب انفجارها وبخاصة أنها ليست طارئة ولاعابرة، ولا تمثل فلتة لسانٍ من مسؤول، ولا يمكن اختصارها بأنها غياب عن الوعي تسبب في مثل تلك المقولات المجنونة البعيدة كل البعد عن الدبلوماسية والكياسة الفردية، بل لها جذورها وإرثها ولها آيديولوجيتها الراسخة في إرث وأساس التيار الوطني الحر، يمكن لأي متصفح أن يعثر على مستويات متقدمة من الإقذاع اللفظي من قبل التيار ضد خصومه المسيحيين من «مردة» و«قوات» و«كتائب» وما لا يحصى من القصف المستمر ضد السنة والدروز، وهذا الكلام للتفصيل السياسي ولغرض نفض الخطاب العوني وتحجيمه لئلا يعكس أي اضطراباتٍ محتملة مستقبلاً بين اللبنانيين أنفسهم وبين اللبنانيين ودول الخليج تحديداً ومحيط لبنان العربي عموماً.
ثمة قلق كبير في تفسير العلمانية داخل الخطاب المؤسس للتيار الوطني الحر ويمكن مراجعة تنظير الجنرال ميشال عون حولها في عدد من كتبه التي نظّر بها منذ التسعينات وإلى اليوم ومنها: (ما به أؤمن) و(رؤيتي للبنان) وعشرات المقالات والحوارات واللقاءات، خلاصة فكرته أن العلمانية هي الوسيلة الأكثر نجاعة من أجل وصول لبنان إلى الديمقراطية وبالتالي للمدنية الكاملة وصولاً نحو إلغاء الطائفية، وهو بهذه النقطة يجعل العلمانية من شروط الديمقراطية لا العكس، ولكن في حواره مع قناة «إل بي سي» قبل سنوات اعتبر النظام السوري نظاماً علمانياً لأنه يحقق للإنسان الحريات السلوكية النزاوتية، وهو هنا بين تصورين متناقضين للعلمانية؛ فهي ليست وسيلة للديمقراطية ولا هي شرط لها، أذكر بهذا الاضطراب في تعريف المفهوم مع الانتخابات الرئاسية السورية التي انعكست على لبنان لناحيتين؛ الأولى: الاضطرابات في الشارع كما في حادثة كسروان بين مؤيدين للأسد ورافضين له، والثانية: بتهافت جبران باسيل نحو سوريا لتثبيت موقعه كمرشح للرئاسة بعد انتهاء ولاية ميشال عون، وتعثر طريقه نحو الكرسي بعد العقوبات الدولية.
ثم إن اتفاق مار مخايل لا يخدش نظرية عون حول العلمنة بل ينسفها من أساسها، وهنا الفرق بين نظرة عون للعلمنة وتفسير جعجع لها. في حوار قبل أيام أجرته مع جعجع ميشيل جبران تويني سألته لو كان مضطراً لعقد اتفاق بينه وبين «حزب الله» هل سيفعل؟! رد بأن هذا الفعل أي الاتفاق مع هذا الشكل من الأحزاب كـ«حزب الله» فيه خيانة للمجتمع اللبناني، ماذا يمكن أن يقدم اتفاق كهذا إلا نقض السيادة اللبنانية، وضرب ما تبقى من المؤسسة السياسية، وتدمير ما أسسته القيم الليبرالية التي تجلت في حدثين هما ثورة الأرز بعد اغتيال الحريري 2005 وثورة تشرين 2019، لذلك فإن العلمانية تمنع بالضرورة التفاهم مع أحزاب أصولية ميليشياوية دموية إرهابية.
المهم اليوم ليس تغيير الوجوه، وإنما مراجعة الآيديولوجيات التي تحرك مشاعر الكراهية، وتذكي احتمالات الفتنة، طوال العلاقات اللبنانية الخليجية لم تصل إلى هذا المستوى من قبل قط، حتى في عز الأزمات المتعددة والاضطرابات السياسية بقيت الخطوط تحت التحكم بين لبنان والخليج، ولكن منذ أن هيمن التيار الوطني الحر على الخارجية خسر لبنان رصيداً كبيراً من «صدقية العلاقة» مع دول الخليج بقيادة السعودية. لذلك فإن الأفكار المتوحشة لها بريقها، حتى عيون السباع تلمع، والحذر اليوم من قيام الأحزاب الكارهة التي تكن العداء للآخرين انطلاقاً من تمايزهم السياسي، أو موقعهم الطائفي.
في 23 مايو (أيار) الجاري كتب الأستاذ القدير عبد الله بن بجاد العتيبي مقالة مهمة بعنوان: «توحش الأقليات وسياسة الاضطهاد» لا بد من الوقوف عندها والتأمل بما طرحه بها من أفكار، ومنها:
* فعلت إيران الأمر عينه مع «جماعة الحوثي» المنتسبة للمذهب الزيدي الكريم في اليمن، بحيث جذبتها باتجاه التشيع وهو المذهب «الاثنا عشري» بنسخته الخمينية، ثم سعت لتحويلها إلى «أقلية متوحشة»، وصولاً إلى ما هي عليه اليوم من توحش.
* خارج الإطار الشيعي، قام النظام الإيراني بالتحالف مع بعض ممثلي الأقلية المسيحية في لبنان وتحديداً «التيار العوني»، وتحوّل هذا التيار إلى التوحش والتحالف مع المتوحشين في خدمة النظام الإيراني.
«التناقضات» سلاحٌ في السياسة والفكر تعتمده الكثير من الدول والأحزاب والحركات السياسية، وهو إحدى «الآليات» التي يعتمدها النظام الإيراني وأتباعه «المتوحشون» في بسط النفوذ وفرض الهيمنة على العديد من الدول العربية، ومن ذلك المزاوجة بين «خطاب العزة» و«خطاب الاستضعاف»، ويكفي رصد خطاب «حزب الله» اللبناني وخطاب «جماعة الحوثي» وخطاب «جماعة حماس» لاستيضاح المقصود بهذا السياق.
«اضطهاد الأقليات» الأقل عدداً وتأثيراً هو أحد عناصر استراتيجيات «الأقليات المتوحشة» والأمثلة كثيرة، فـ«حزب الله» اللبناني يضطهد «المسيحيين» و«الدروز»، وميليشيات «الحشد الشعبي» في العراق تضطهد أقليات العراق الكثيرة والمتعددة والتي تمثل جزءاً من فسيفساء العراق التاريخي والحضاري، مثل «الأكراد» كأقلية عرقية و«الإيزيديين» و«المسيحيين» كأقلية دينية، و«ميليشيا الحوثي» تضطهد «البهائيين» و«يهود اليمن» وهكذا في سياسة ثابتة ومنهجٍ مستقرٍ.
خلاصة القول، إن الكارثة التي مرت بها العلاقة اللبنانية الخليجية ليست نتاج اجتهاد شخصي، ولا تجلٍ حد التخلي، وفلتة لسان من الخطام، بل نظرية محكمة داخل آيديولوجيا مشيدة، وفصل من كتاب، وبيت من قصيدة. إن الخطيئة كانت جزءاً من مشروع سياسي وفكري وثقافي بني في أذهان الأتباع منذ عقدين على الأقل حتى الآن.
إن الخطر المحدق يكمن في أفكار التصفية، والتبرير النظري لاحتقار الآخرين، وفي صيغ الانعزال التي تروّج اليوم ليس ضد الفلسطينيين والسوريين اللاجئين كما هو الخطاب التاريخي القديم، بل تُسمع اليوم أصوات وهمهمات ويفرج عن وثائق تتبنى الهجوم القاسي على الطوائف الأخرى في الداخل، وهذه الأفكار لا بد من نقدها للنجاة بالمنطقة من أي فتنة محتملة.
أختم بقول عبد الله بن بجاد إن «توحش الأقليات» هو أحد أكبر المخاطر الوجودية عليها، وإن قياداتها ونخبها السياسية والثقافية والاقتصادية في هذه المرحلة من عمر البشرية ستتحمل عبئاً كبيراً في المستقبل.