د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

مستقبل القطاع المصرفي

هل تذكر آخر مرة زرت فيها فرع البنك؟ وكم مرة ذهبت إلى البنك لتنجز معاملاتك البنكية في آخر سنتين، مقارنة بالعشر سنوات التي سبقتها؟ هذه أسئلة تطرحها البنوك اليوم، لتعيد تقييم فروعها والحاجة إلى موظفي الفروع اليوم مقارنة بالماضي، فجل المعاملات البنكية اليوم تنجز عن طريق التطبيقات البنكية، والتي لم يكن لها وجود تقريبا قبل عشر سنوات، ولكنها اليوم تعد علامة فارقة بين البنوك في خدمة العملاء، فلم يعد البنك يحتاج إلى موظف لبق للتعامل مع العملاء، بل هو بحاجة إلى تطبيق شامل يسهل التعامل معه.
هذه التغيرات التي فرضتها التقنية على القطاع البنكي – كما فرضتها على غالبية القطاعات الأخرى – جعلت البنوك تعيد تقييم سياساتها في التوظيف، ورغم كون القطاع البنكي استفاد كثيرا من رقمنة العمليات خلال الثلاثة عقود الماضية، إلا أن أعداد الموظفين فيه استمرت في تزايد مع توسع البنوك في خدماتها. ولكن الأمر هذه المرة اختلف، فالتقنية أغنت البنوك عن الكثير من المهام التي كان يقوم بها موظفو الفروع، وما تزال هذه التقنية تزداد توسعا. في تقديم هذه الخدمات، حتى توقع قسم الإحصاء العمالي في الولايات المتحدة أن يقل عدد الموظفين في فروع البنوك في العقد القادم بنحو 15 في المائة. وتوقع تقرير آخر من صحيفة «الفايننشال تايمز» أن عدد الوظائف في القطاع البنكي الأميركي قد ينخفض 200 ألف وظيفة خلال العشر سنوات القادمة، أي ما نسبته 10 في المائة من القوى العاملة في هذا القطاع.
وقد يكون استبدال أعمال الموظفين بالتقنية أحد أسباب هذا الانخفاض، ولكنه ليس السبب الرئيس، فالسبب الرئيس هو التنافس الذي يشهده القطاع البنكي اليوم. فعلى مدى سنين طوال، كان التنافس في القطاع البنكي بين البنوك أنفسها، وكانت كل دولة تحتوي على عدد قليل من البنوك الضخمة يستولي على الحصة الأكبر من القطاع المصرفي، تاركا حصة صغيرة لعدد كبير من البنوك الصغيرة لتتنافس عليه. ولكن المنافسة اليوم اختلفت، فالبنوك اليوم تتنافس مع شركات جاءت من خارج هذا القطاع، وهي الشركات التقنية.
فمع زيادة التعاملات الرقمية، دخلت الشركات التقنية مجال المنافسة في العمليات البنكية بشكل شرس، وأصبحت لشركات مثل (باي بال) و(أبل) و(أمازون) وغيرها حصة لا يستهان بها في هذا القطاع. وسيطرة هذه الشركات على القطاع التقني يعطيها أفضلية كبرى في زيادة حصتها السوقية في القطاع المصرفي، فعلى سبيل المثال، استخدمت شركة (أبل) نفوذها من خلال أجهزة (الآيفون) للتسويق لخدمة (أبل باي)، وقد أطلقت أبل هذه الخدمة في نهاية 2014، أي قبل أقل من 7 سنوات، ولديها اليوم أكثر من 500 مليون مستخدم، وما زال لديها فرصة لزيادة هذا العدد بل ولمضاعفته، لا سيما أن أكثر من نصف مالكي أجهزة الآيفون لم يستخدموا هذه الخدمة بعد!
والبنوك كذلك تتعرض للمنافسة في قطاع التمويل، فبعد أن كان القطاع هو الممول الأكبر للاستثمارات، أصبح اليوم لا يشكل إلا ثلث القطاع التمويلي، والمنافسون في ذلك كثر، فزيادة على الشركات التقنية التي قد تمول العمليات الشرائية عبر تطبيقاتها، دخلت صناديق الاستثمار الجريئة للمنافسة بقوة، كما أصبح مفهوم الاقتصاد التشاركي أكثر تقبلا عند المستثمرين بعمليات التمويل الجماعي التي سمحت للأفراد بتمويل المشاريع بشكل مباشر بدلا من وجود البنوك كوسيط فيها.
إن القطاع البنكي يتعرض للتغير بفعل متغيرات الزمن والنهضة التقنية، إلا أن البنوك لا يمكن أن تنتهي بفعل التقنية كما هو الأمر مع الصحف الورقية أو مع سيارات الأجرة، فوجود البنوك جوهري في الاقتصاد الحديث، وهي الرابط بين الدولة والاقتصاد، إلا أن التقنية فرضت وجودها على القطاع البنكي بشكله الحالي وسببت في تغييره، فالقطاع البنكي اليوم يختلف تماما عن مثيله قبل عشر سنوات، وسوف يختلف بكل تأكيد عن شكله بعد عشر أخرى، والحكومات قد تضطر إلى إنشاء بنوك مركزية رقمية تكون موازية للبنوك المركزية الحالية للتعامل مع العمليات الرقمية وتقنينها، وهو ما قد يشكل ضررا كبيرا على القطاع البنكي، لا سيما مع زيادة التوجه نحو العمليات الرقمية والتي ساعدت الجائحة في ازدهارها. وعلى البنوك أن تسابق الزمن والشركات التقنية لفرض سيطرتها على القطاع المصرفي قبل أن يختطف هذا القطاع منها كما هو الحال مع قطاع التجزئة الذي تهاوت شركاته العملاقة خلال السنوات القليلة الماضية.