سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

الوفد السياحي

عند الفرنسيين شيء يسمى «الدعابة السوداء»، أي ما يعادل في آدابنا «شر البلية ما يضحك». أول من أمس، في حين سماء المنطقة تمطر الصواريخ، والمزيد من مبانيها يتحول إلى ركام، وأحلام السلام تتطاير، والمسجد الأقصى في النار والحصار، ومطارات العالم شبه مغلقة، ودول العالم مغلقة على نفسها خوفاً من الثابت والمتحور في أوبئة «كورونا»، في حين كان كل ذلك كذلك، صعد إلى القصر الجمهوري في لبنان، وفد من أصحاب الفنادق، برئاسة وزير السياحة في الجمهورية، لكي يطلب من الرئيس ميشال عون المساعدة في «تفعيل» السياحة عندنا. وقد وعد الرئيس، طبعاً، أن يفعل كل ما في وسعه في سبيل ذلك. للوهلة الأولى، يبدو المشهد غريباً: ما علاقة الرئيس في فراغ الفنادق من النزلاء أو فراغ البلد من السياح؟ إنه يُفرَّغ من أهله أيضاً.
لكن لا يجوز أن تلوم «المريض إذا تعلق بحبال الهواء». والفنادق تكاد تفرغ من موظفيها، وليس فقط من نزلائها. ومثل المطاعم، أكثرها مُغلق؛ لأن الإغلاق أقل تكلفة من التشغيل. وبسبب استعصاء تشكيل حكومة تدير شؤون الناس وتدبر البلد في انهياره المريع، لا يرى وزير السياحة أمامه سوى حل واحد: مرافقة أصحاب الشكوى إلى القصر الجمهوري وكأنه من يحتجز السياح، ويمنع ملء الفنادق والمطاعم والشواطئ، «ولبنان يا أخضر حلو»...
في أي حال، بادرة لطيفة من معالي الوزير، خصوصاً أن حكومته لا تجتمع كما كانت تفعل من قبل، حينما كانت تفعل من قبل، حينما كانت كلما اجتمعت زلزلت الأرض من تحت أقدامها وانشقَّت السماء وهطلت السُحُب منّاً وسلوى وأفكاراً عميقة عن الازدهار المالي، والهناء الاقتصادي، وسعر الرغيف، مغلفاً بالنايلون أو من دونه. هكذا يتكلم وزير اقتصادنا، كلما دعت الحاجة، وهي الخبيثة التي لا تكف عن الدعوة.
كأنما انفجرت مآسي فلسطين لكي تذكِّر اللبنانيين بحجم مآسيهم. وبأن مبانيهم العالية لا تزال في مكانها رغم ما دُمّر منها في انفجار المرفأ الصيف الماضي، ترغمني المصادفات أحياناً، على المرور من جانب ميناء بيروت. دائماً أحاول الإشاحة عن المنظر. دائماً أفشل. دائماً يعود إليّ صوت ذلك الانفجار الذي سُجلت ارتجاجاته في تونس وكازاخستان. دائماً أتذكر أن الدولة (باستثناء الجيش) لم تتقدم حتى بالتعازي. ودائماً أتمنى لو أنني ولدت في بلد آخر.
لكنني سرعان ما أتذكّر كيف هبّ اللبنانيون إلى المساعدة. كيف تطوَّعوا جماعات لإصلاح الزجاج المكسور وتقديم آلاف الوجبات ومساعدة الجرحى والمصابين. وكل ما قدمته الدولة: 215 قتيلاً و6 آلاف جريح و35 ألف مشرد، وقاضي تحقيق واحد!