سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

القضية ليست قانونية في سد النهضة ولا هي فنية!

عاشت الإدارة الأميركية مائة يوم في الحكم تسمع عن قضية سد النهضة ولا تفعل شيئاً يحركها من مكانها، فلما أتمت المائة يوم الأولى أرسلت جيفري فيلتمان مبعوثاً خاصاً لها إلى القرن الأفريقي، حيث تتفاعل القضية وتكبر منذ بدء بناء السد في 2011.
والسؤال الذي كان يشغل كل متابع للقضية خلال جولة المبعوث وبعدها، هو: هل يمكن التعويل عليه في حل الإشكال بين أطرافه الثلاثة، وهل يمكنه الوصول إلى شيء نفهم منه أن إدارة بلاده حاضرة في القلب من القضايا الكبرى حول العالم، ومؤثرة، ومبادرة بما لا يقدر عليه سواها؟!
للإجابة عن السؤال، لا بد أن نحدد معاني الكلمات التي نستخدمها مسبقاً؛ حتى لا نكتشف في النهاية أننا نتحدث عن شيء، بينما القصد شيء آخر. لقد كانت هذه هي طريقة سقراط في الحديث مع تلاميذه، وكان يرغب في ألا يتكلم إلا عن شيء يقصده فيحدده، وقد ثبت أنها الطريقة الأصوب في الكلام عن أي قضية، ليس فقط لأنها تحدد معاني الكلمات منذ البداية، ولكن لأنها تجنبنا التوقف عند التفاصيل التي تستهلك الوقت، والجهد، والمال، بلا طائل يعود من ورائها.
وفي المقدمة من الكلمات التي يجب تحديد معانيها في سياق رحلة المبعوث الأميركي إلى القاهرة، والخرطوم، وأديس أبابا، تقف كلمتان اثنتان؛ أولاهما «القدرة» الأميركية على فعل شيء في ملف السد الملتهب بطبيعته، والأخرى هي «الإرادة» المتوفرة لديها في اتجاه فعل هذا الشيء.
أما عن القدرة، فهي قادرة لا شك، وهي تملك من أوراق التأثير في يديها ما تستطيع به الإتيان بصانع القرار الإثيوبي إلى الطاولة للتوقيع على اتفاق يحقق صالح مصر والسودان في موارد النهر، بمثل ما يحقق صالح إثيوبيا نفسها في الموارد ذاتها.
تستطيع وتقدر إذا أرادت، وإلا، ما كانت هي القوة العظمى الأولى في عالمنا، وما كانت تستأهل أن تمسك بزمام القيادة بين الدول على الأرض!
هذا عن الاستطاعة أو القدرة، ولكنهما معاً شيء، بينما الإرادة السياسية لترجمتهما في واقع الدول الثلاث شيء آخر، وقد كانت إدارة الرئيس دونالد ترمب تمتلك الشيئين في يديها، لولا أن المفاوض الإثيوبي غاب من دون مقدمات عن جلسة التوقيع!
ولا يزال غيابه لغزاً من الألغاز؛ لأننا وقتها كنا أمام جلسة التتويج بعد مفاوضات طويلة كان ترمب شخصياً يتبناها ويرعاها، ولم يكن ذلك الغياب المفاجئ هو اللغز الوحيد في قائمة من الألغاز الكثيرة تقول، إن الطرف الإثيوبي دأب في كل مرة يلتقي فيها مع الطرفين الآخرين على أن يقول شيئاً، ثم يتصرف في وقت الجد على العكس مما يقول، لقد قضى الوقت كله يفعل ذلك ويمارسه من دون تقدير لعواقب ما يفعله من حيث فقدان الثقة به، ومن حيث دفع الطرفين اللذين يشاركانه القضية إلى فعل ما يريانه محققاً لمصالح مائة وخمسين مليوناً من البشر يسكنون البلدين.
امتلكت الإدارة الأميركية السابقة قدرة وإرادة؛ وهذا ما جعلها تدعو وزراء الخارجية والري في الدول الثلاث إلى واشنطن، وهناك التقطوا صورة لا نزال نذكرها مع ترمب في مكتبه البيضاوي، ثم دار التفاوض جلسة من بعد جلسة، إلى أن أخفقت الجلسة الأخيرة؛ لأن حكومة آبي أحمد تعاملت معها بشيء غير قليل من عدم المسؤولية في آخر لحظة!
ولم تملك إدارة ترمب سوى أن حرمت الحكومة الإثيوبية من مساعدات أميركية كانت مقررة لها، وكان ذلك على سبيل العقاب الذي يأمل أن يعيد الطرف الغائب عن التوقيع إلى الصواب!
ولكنه لم يرجع إلى هذه الطريق، وقد بدا طول الوقت وكأنه يفكر في شيء لا نعرفه ولا يعلنه هو على الناس، ولا على شريكيه في عملية التفاوض، وكان الطبيعي أن يظل التفاوض في وضع «محلك سر» بغير إنجاز خطوة واحدة إلى الأمام.
وقد رحل ترمب عن منصبه وبقي آبي أحمد على موقفه، وحين جاءت الإدارة الجديدة في البيت الأبيض قالت إنها لن تربط بين مساعداتها لإثيوبيا، وبين قطع خطوات إيجابية في قضية السد، وكان معنى هذا أن إدارة بايدن إذا لم تكن تنحاز إلى إثيوبيا بموقفها المعلن هذا، فإنها تقف على الحياد في ملف لا يحتمل الحياد، ولا يطيق تداعياته، ولا يتحمل عواقبه.
وكان في هذا الموقف ما يكفي للدلالة على أن إدارة الرئيس بايدن تملك القدرة على الحل ولا تملك الإرادة التي تساعد على الحل وتفرضه، ولو ملكتها لكانت قد ربطت بين المساعدات وبين النجاح في التفاوض، اللهم إلا إذا كانت تتعامل في الملف على أنه من الملفات التي تركها لها ترمب، وأن عليها بحكم ما بينهما من خصومة سياسية معلنة، أن تمشي في الملف بعكس ما كان يفعله الرئيس السابق.
ومن الثابت أن جولة المبعوث الأميركي تقاطعت مع جولة موازية قام بها فيليكس تشيسيكيدي، رئيس الكونغو الديمقراطية، إلى عواصم الدول الثلاث، فلم يكن فيلتمان يكاد يغادر عاصمة من العواصم الثلاث، حتى كان تشيسيكيدي يحل في مكانه بادئاً من القاهرة، ومنها إلى الخرطوم، ثم إلى أديس أبابا في جولة يقوم بها بصفته رئيساً للاتحاد الأفريقي، قبل أن تكون باعتباره رئيساً لإحدى دول القارة السمراء؛ فالاتحاد يرعى التفاوض منذ سنة وأشهر عدة.
والإرادة التي افتقدتها إدارة بايدن قبل أن يجيء مبعوثها، افتقدها الرئيس تشيسيكيدي بشكل مختلف؛ لأن إرادته لو توافرت لكان قد بدأ جولته من أديس أبابا، المتعنتة في مواقفها، لا من القاهرة ولا من الخرطوم من بعدها، فالعاصمتان أظهرتا من المرونة في كل موقف ما يقول إنهما راغبتان في الحل، وفي تقديم كل ما من شأنه الوصول بالقضية إلى غايتها العادلة، وبمعنى آخر، فالمشكلة هناك في أديس أبابا، وليست هنا في القاهرة، ولا هي بالطبع في الخرطوم.
وقد قيل إنه قد جاء وفي يده مبادرة يطرحها، ولكنه لم يكشف عنها ولا عن شيء من محتواها، وهي مبادرة تحمل اسم الاتحاد الذي لا يزال يستطيع إخراج القضية من جمودها الحالي؛ لأنه يملك من الأوراق ما يجعله يستطيع إذا أراد!
ولا بد أن ياسر عباس، وزير الري السوداني، كان واضحاً بما يكفي حين قال، إن العودة إلى التفاوض على النهج الإثيوبي القديم نفسه ليست سوى شراء للوقت. كان على حق في ذلك تماماً؛ لأن فيلتمان إذا كان قد جاء يدعو إلى استئناف الجلسات بين الدول الثلاث على أساس ما فات، وكذلك إذا كان تشيسيكيدي قد جاء يدعو إلى الشيء نفسه، فمن قبيل تضييع الوقت أن تفعل الشيء ذاته ثم تتوقع أن تصل إلى شيء مختلف!
يتكلم الأطراف الثلاثة منذ بدأ التفاوض عن قضايا فنية مرة، وقانونية مرة، يجري الحديث حولها بين العواصم الثلاث على طاولة واحدة، والحقيقة التي يتبينها من يتابع حديث الطرف الإثيوبي بالذات، أن القضية سياسية لحماً ودماً، وأنها لا هي فنية، ولا هي قانونية!
تعرف الإدارة التي أرسلت المبعوث فيلتمان، ويعرف رئيس الكونغو معها، أن إنفاق كل هذا الوقت منذ البداية، وكل هذا الجهد، في مناقشة أشياء من نوع ملء السد، ومن نوع تشغيله، ومن نوع وقوع سنوات الجفاف أو عدمها، هو الوجه الآخر لغياب إرادة سياسية إثيوبية تجعل أديس أبابا تتملص من الأصول وتناقش الفروع، ولو حضرت هذه الإرادة لوجدت القضية حلها في ساعتها.