جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

أميركا تعيد رسم خريطة الطريق

في الانتخابات البريطانية الأخيرة - ديسمبر (كانون الأول) 2019 - مُني حزب العمال بهزيمة قاسية. وفي تبريره للخسارة، قال الزعيم السابق جيريمي كوربين: «لقد فزنا بالنقاش». تلك المقولة، تداولها المعلقون السياسيون ممزوجة بسخرية، لأن الأحزاب، حسب وجهات نظرهم، لا تدخل الانتخابات للفوز بالنقاش، بل للفوز بكرسي الحكم. وهو صحيح، وغير قابل للجدال. وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2020 في الانتخابات الرئاسية الأميركية، فاز المرشح الديمقراطي جو بايدن، وخسر الجمهوريون بقيادة الرئيس السابق دونالد ترمب. السؤال: لماذا نجح بايدن وفشل كوربين، رغم أن الاثنين دخلا الانتخابات ببرنامج انتخابي يُعد، وفق المعايير السياسية، راديكالياً؟
الشهورُ الثلاثة الأولى من حكم الرئيس بايدن، وما تحقق خلالها من إنجاز في التصدي للأزمة الوبائية، ونجاح حملة التطعيم، بشكل أثار غيرة الجمهوريين، مضافة إلى ذلك السياسات الاقتصادية التي طرحها، والأموال التي رصدها للخروج بالاقتصاد من نفق الأزمة الوبائية، من خلال رصد ميزانية ضخمة وإنفاق حكومي ضخم؛ السياسات الجديدة رغم راديكاليتها، حظيتْ بقبول شعبي واسع، ورفعت من أسهم شعبية الرئيس بايدن في استبيانات الرأي العام، بل وأثبتت فاعليتها حتى الآن، في تحريك العجلة الاقتصادية المتوعكة، الأمر الذي يشير إلى إحداث ثورة. بل، يمكن القول من دون مبالغة، ثورة اشتراكية، بالحكم عليها من خلال المعايير المحافظة والتقليدية، التي يتبناها الحزب الجمهوري.
فشلُ السيد كوربين ونجاح الرئيس بايدن لم يكونا محض صدفة، كما قد يبدو الأمر للبعض. وأعتقد، من وجهة نظر شخصية، أن الفرق يعود إلى طبيعة الناخبين في البلدين. فالناخبون البريطانيون لا ينكرون تفضيلهم لما طرحه السيد كوربين من برنامج سياسي للحكم، لكنهم، وهذا المهم، يعرفون أن تحقيق ذلك البرنامج غير ممكن. ولذلك، أداروا له ظهورهم وصوتوا للمحافظين، حتى في المناطق المعروفة تاريخياً بموالاتها لحزب العمال. في حين أن الناخبين الأميركيين صدقوا بايدن، لأنهم يعرفون إمكانية تحقيق ما طرحه من سياسات وخطط اقتصادية. إذ ليس الخطأ في تبني حكومة لسياسات راديكالية، بل الخطأ في تجاهل حقيقة عدم إمكانية تحقيقها واقعياً. وربما لذلك السبب كان السيد كوربين مُحقاً، جزئياً، حين قال لقد فزنا بالنقاش.
في الثمانينات من القرن الماضي، وخلال فترتي حكم السيدة مارغريت ثاتشر في بريطانيا والرئيس الأسبق رونالد ريغان في أميركا، ارتبط التغيير، عبر تبني سياسات راديكالية باليمين. في تلك الفترة، بدأ تدخل الدولة في الأسواق الاقتصادية يدخل مرحلة انكماش غير معهودة، ومعه أيضاً كان التوجه إلى تقليص قوة الاتحادات العمالية والنقابات وتهميشها. وتضاءل حجم الخدمات الاجتماعية والضمانية للفقراء والعاطلين عن العمل. وتقلصت حدود الدولة المعروفة حتى كادت تنمحي. تلك السياسات، رغم الصدمة التي أحدثتها، جاءت بنتائج إيجابية اقتصادياً، وغيرت واقع الأمور في البلدين. ما قام به الاثنان، في لندن وواشنطن، كان في حقيقة الأمر ثورة، تجاوزت آثارها البلدين، بل ونُسختْ بحماس في بلدان أخرى. ما يلفت الاهتمام، أن قوى اليسار في البلدين، وقتذاك، تحولت إلى اليمين، لحرصها على استمرار الوضع الراهن، ولرفضها تغييره. تبادلُ الأدوار، الذي حدث آنذاك، يعود الآن، ليس في بريطانيا، بل في أميركا. اليسار يقود التغيير، واليمين يرفضه ويعاديه. وما حدث في بريطانيا هو أن اليمين أحكم قبضته من خلال تبنيه لبرنامج سياسي شعبوي. والثورة الموعودة لم تحدث. وما حدث هو عودة الفساد للاستحواذ على عناوين الأخبار، مُعيداً للأذهان ما حدث في فترة حكم رئيس الوزراء الأسبق جون ميجر. ذلك الفساد قاد المحافظين لواحدة من أقسى الهزائم الانتخابية في عام 1997، وجاء بالعمال إلى الحكم، بقيادة الزعيم الأسبق توني بلير.
من الممكن القول، إن القبول الشعبي لسياسات الرئيس بايدن، بإعادة الاعتبار للدولة، وبوضع العربة الاقتصادية على قضبان سكك جديدة، تعيد الثقة المفقودة من قبل المواطنين بالدولة، من خلال تجسير الهُوة بين مداخيل الفقراء والميسورين، ما كانت لتحدث لولا الصدمة الشديدة التي أحدثها الوباء الفيروسي، وانعكاساتها السلبية على كافة المستويات. إذ أدرك المواطنون من خلالها أهمية التعاضد الاجتماعي، والحاجة الماسة للإحساس بأمان فقدوه، والمرونة في التعامل مع الصدمات. استبيانات الرأي العام، التي نشرت مؤخراً، كشفت أن المواطنين في البلدان الصناعية المتقدمة والغنية غير راضين على الأنظمة الاقتصادية في بلدانهم. وأنهم يطمحون إلى المزيد من الفوائد من دولهم. ويرغبون في وجود أنظمة اقتصادية تحقق توازناً في المداخيل بين مختلف الطبقات.
الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب كان مُحقاً حين تنبأ، خلال الحملة الانتخابية، بما سيفعله بايدن في حالة وصوله إلى البيت الأبيض، وحذر أنصاره من مغبة نتائجه. لكن النتائج، إلى وقتنا هذا، لا تشير إلى انتكاسة كما توقع، بل إن كل المؤشرات تؤكد أن أميركا، في عهدها الجديد، تسير، بخطوات سريعة، في طريق يقود ليس فقط إلى الخروج من الأزمة الوبائية متعافية، بل وباقتصاد قادر على منافسة التنين الصيني، في مرحلة ما بعد الوباء، وتعزيز مركزها في قيادة العالم.